أهمية المصادر في مسألة التصنيف وسؤال التراث
عربي
منذ 11 ساعة
مشاركة

كان لأستاذنا الدكتور حامد ربيع دور رياديّ في حمل مهمة إدخال مساق الفكر السياسي الإسلامي إلى قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، وقبيل وفاته بشهر، طلب مني إعداد مقال يصلح تأسيساً، وورقة مرجعية، إما لتأسيس مركز مستقل داخل الكلية وإما لتأسيس وحدة بحثية في مركز الكلية الأشهر (مركز البحوث والدراسات السياسية)، الذي أنهيت حياتي الوظيفية برئاسته، وأحسب أن ذلك المقال (أو الورقة المرجعية) كتبتها بالمشاركة مع أستاذنا، وبناء على طلب منه، وضمّنتها كتاب "مدخل في دراسة التراث السياسي الإسلامي" (مكتبة الشروق، القاهرة، ج1وج2)؛ وقد حالت وفاته المفاجئة دون اتخاذ الإجراءات المؤسّسية أو العلمية للمقال في حينه. ولذلك من المهم نشر تلخيص لذلك المقال لاعتبارات كثيرة، أهمها تعلّقها المباشر بمسألة التراث وسؤاله.
يبدو، ونتيجة تراكمات فكرية معينة، أن هناك ارتباطاً أساسياً بين مسألة التصنيف وقضية المصادر، إذ يعتبر بعضهم أن قضية المصادر هامشية ثانوية لا تستأهل الجهد البحثي المبذول بصددها، أو أنها قضية فنّية ليست لها أيّ دلالات موضوعية. وواقع الأمر أن كلتا النظريتَين تقعان في دائرة الخطأ، فهي قضية، في جانب منها، من الخطورة بمكان، تستحقّ المتابعة المتأنية، إذ تحقّق أكثر من هدف أهمها على الإطلاق أن التعريف بمصادر هذا التراث مقدمةً أساسيةً للقيام بتحليله ومتابعته بالدراسة المنهجية؛ وهي قضية يجب ألا يقتصر النظر إليها (وفيها) بوصفها قضية فنّية أو جزئية، بل هي في حقيقة أمرها مقدّمة لعملية كلية تبحث في سياق "المصدر- الهوية - الإحياء".

لحديث عن المصادر له وظيفة أساسية في تصحيح التصورات وتقويم المدركات 

كذلك، يمكن أن يقدّم تحليل التراث الإسلامي من الوجهة العلمية إسهاماته في أكثر من بعد في نطاق التحليل العلمي للظاهرة التراثية، معرفة مصادر التراث الإسلامي أولى الأبجديات العلمية التي يجب التوجّه إليها بالبحث، بخاصّة أن المهتمّين بالدراسات الإسلامية لم يولوا الاهتمام الكافي بمثل هذه القضية، وهو ما جعل فريقاً كبيراً يشكّك في إمكانات هذا التراث في بادي الرأي، ومن دون تحقيق يذكر، فاستبعدوا ذلك التراث من نطاق دراستهم وأبحاثهم، تارةً بدعوى اختفاء الأدوات العلمية الصالحة لتمكين الباحث من الوصول إلى تراث الفكر الإسلامي في معناه الحقيقي، فضلاً عن فريق يرفض التعامل مع هذا التراث ابتداءً، مؤكِّداً (إن وجد) عدم صلاحيته للدراسة العلمية الرصينة.
وواقع الأمر أن جزءاً من هذه الدعاوى قد يجد نصيباً من الحقيقة، إلا أنه يغفل رؤية الحقيقة كلّها، فالواقع أن جميع هذه الصعوبات تمثّل عقبات نسبية من الممكن التغلّب عليها بشكل أو بآخر. الحديث عن مصادر التراث الإسلامي ليس إلا جزءاً من التطوّر الذي يعانيه الفكر العربي المعاصر في إعادة تقييم نفسه، بالبحث عن مصادره الحقيقية والذاتية، وبقصد تحديد وظيفته الخلّاقة في التراث الإنساني وبهدف إبراز وجوده المستقلّ عن مختلف التيّارات الأخرى المتصارعة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يعدّ ذلك إدانة ذلك الفريق الذي ما زال يؤمن بأن أصالته هي في الابتعاد عن مصادره، وأن قوته هي في استقبال الخبرة الأجنبية، وتلك الإدانة وذلك التبصير ليسا إلا نظراً علمياً لقضية الهُويَّة الحضارية التي تبحث عن مصادرها الحقيقية في تاريخها الذاتي، بل إن الحديث عن المصادر له وظيفة أساسية في تصحيح التصورات وتقويم المدركات، بخاصّة تلك التي دارت حول حسبان التراث الإسلامي، ليس إلا فكر الفلاسفة أو فكر الشوامخ، متجاهلاً بذلك مصادر لا تقلّ في الأهمية (إن لم تزد)، سواء في البصر بالواقع أو في تأصيل المفاهيم والمدركات الإسلامية، وحقيقة إسهام الخبرات الإسلامية المتنوعة في هذا المقام.
يزيد من أهمية التأصيل للفكر الإسلامي ما درج عليه علماء الفكر في تأريخ المذاهب والأفكار على أنها أحد ملامح النبوغ الغربي. فالفكر السياسي بدءاً بالتراث اليوناني، وعبر حضارة العصور الوسطى يصل إلى المدارس المختلفة المرتبطة بالضرورة السياسية، التي بالنسبة إليها الثورة الفرنسية خاتمة المطاف، وانطلاقاً من تلك الثورة، وما أعقبها من أحداث، تتجلّى الأيديولوجية المعاصرة قوميةً سياسيةً تدور حول تأكيد العلاقة النظامية بين الشعب والإقليم والدولة، ومجمل القول إن التراث اليوناني شكّل مصدر الانطلاق في التأصيل الفكري وبناء النظرية السياسية للحضارة الغربية؛ فهل معنى ذلك أن جميع الحضارات الأخرى لم تعرف فكراً سياسياً؟ هل تراث كالحضارة الصينية أو الهندية لم يقدّر له أن يقدّم ذلك الإيناع الفكري، هل هذه الحضارات العلمية (التي أثرت وتأثرت) انقطعت اتصالاتها في كلّ ما له صلة بالنواحي السياسية؟ وهل يغفل أن التزاوج الحضاري يمكن أن يقتصر على بعد واحد.
كان لهذه الرؤية دورٌ في استبعاد التراث الإسلامي من ميدان تأريخ الأفكار، على أن عوامل أخرى شجّعت هذه النظرة، وأكّدت ذلك الاتجاه خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين منها، أولاً الاتجاه العام لرفض الحضارات الدينية من نطاق التحليل، فالثورة الفرنسية قامت على مبدأ إلغاء الدين من ميدان الحركة السياسية، وجعل العلاقة بين المواطن والدولة علاقة مباشرة، إذ لا وسيط ولا محدّد؛ فصل الدين عن الدولة وجعل الأول ميداناً مستقلاً يرتبط بعلاقة الفرد بربه.

بعض الحضارات الشرقية حقيقة لم يقدّر لها الإيناع الفكري، لاختفاء القدرات الخلاقة في التحليل السياسي

وثانياً، الوجود السياسي، فتأتى الحضارة الماركسية والتقاليد النازية لتزيد من تأكيد هذه النظرة، بل تصل في بعض الأحيان إلى إلغاء الدين بوصفه وجوداً فكرياً. كان من الطبيعي أن تؤدّي هذه النظرة التي ميّزت بصفة عامّة حضارة عصر النهضة، وقامت على أساس العقل والمطلق الفردي المجرّد، إلى إلغاء الاهتمام بالحضارات الدينية. أمّا ثالثاً، فيتعلق بالسياق السياسي، إذ غلب على تلك الفترة الاستعمارات الكبرى، ولم يكن من صالح الحضارات الغربية أن توقظ في تلك الأمم المغلوبة (وهي أمم مُستعمَرة) الاعتقاد بأنها جديرة بأن تجد في تراثها أيَّ مظهر من مظاهر القوة والتماسك في النواحي السياسية.
رابعاً، هناك عوامل ذاتية تتمثّل في أن بعض الحضارات الشرقية حقيقة لم يقدّر لها الإيناع الفكري، ولنذكر بصفة خاصّة الحضارة الفرعونية، ثمّ الحضارة الفارسية، وكذلك الحضارة التركية. وبرغم أن الحضارات الثلاث تربطها فكرة النظم السياسية السلطوية الأوتوقراطية، تربطها أيضاً ظاهرة اختفاء القدرات الخلاقة في التحليل السياسي؛ ولعلّ الأمر الذى يدعو إلى الدهشة والتساؤل أن هذه الحضارات عرفت نظماً إدارية متقدمة، ووضعت قواعدَ مثالية في تنظيم المرافق العامّة، وبصفة خاصّة في مصر القديمة، وفي فترة الحكم العثماني التي اتسمت بجهد إداري كبير، ولكن الإسهام في التحليل السياسي فقير، فلم يقدّم الفكر السياسي بمعنى تحليل وتفسير احترام المواطن إزاء السلطة أيّ مظاهر متكاملة.
هذه الحضارات التي وصلت إلى أقصى مظاهر التقدّم لم تترك أيٌّ منها آثاراً فكريةً تماثل (أو تقترب ولو من بعيد من) ذلك الذي تركته الحضارة اليونانية، وفجأة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، إذا بهذه النظرة قد أصابها نوع من التفكّك لبروز عدة عوامل تستحق الإحاطة والمتابعة وهي؛ الاهتمام بالدين بوصفه أحد متغيّرات الوجود السياسي المعاصر؛ عملية التجديد الفكرية المرتبطة بإعادة تأريخ حضارة العصور الوسطى؛ الاهتمام بفكرة الطابع القومي بوصفه أحد مدخلات الظاهرة السياسية والنواحي العقيدية، وأحد ملامح الطابع القومي؛ أخيراً، ظاهرة التغيير السياسي التي فرضت بدورها ظاهرة النهوض من حال التخلّف. والسؤال الذي يفرض نفسه بهذا الخصوص: هل يستطيع التراث الإسلامي أن يقدّم بدوره حلولاً لمواجهة تلك الظاهرة في شقّيها (التخلّف والنهوض)؟

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية