
لم تكن ظاهرة التشرّد معروفة في العراق قبل الغزو الأميركي عام 2003، لكنّها باتت تدريجياً مألوفة، خاصةً في المدن الكبرى المزدحمة بالسكان، مثل بغداد والبصرة
كثيراً ما يُشاهَد في شوارع مدن العراق، لا سيّما العاصمة بغداد، مشرّدون يسيرون بين الناس، أو يقفون عند إشارة مرور، أو يفترشون أرصفة الشوارع. تراهم جالسين بصمت، أو نائمين على قارعة طريق، يحملون فوق أكتافهم تجارب قاسية تصعُب روايتها، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن من بين هؤلاء من كانوا ذات يوم فاعلين في المجتمع.
كان بعضهم موظفين أو معلمين، أو أصحاب مهن حرة، لكنّ تقلبات الحياة، أو الحروب، أو الانهيار النفسي دفعت بهم إلى الشارع، لينضموا إلى صفوف المشرّدين.
تحت ظل شجرة قرب أحد متاجر حي الكرادة، يجلس رجل في العقد السادس، بثياب رثة ولحية كثة. ويروي صاحب المتجر، رعد الفراتي، أن هذا الرجل كان يوماً ما شخصية معروفة، ويملك منزلاً وسيارة، قبل أن ينهار عقب حادث سير أودى بحياة زوجته وولديه، بعدها لم ينطق بكلمة، ولم يعد إلى منزله رغم محاولات متكررة من أقاربه وأصدقائه.
ليست هذه القصة فريدة من نوعها، فالمشهد متكرر في العاصمة العراقية، وكل شخص يُخفي وراءه حكاية، من بين الحكايات تلك التي ترويها أم حسين، وهي خمسينية تبيع شطائر البيض والجبن على عربة بسيطة، تتابع بنظرات حزينة رجلاً يمرّ كل صباح بخطى واهنة، وتقول: "كان هذا الرجل مدرّساً، وكان رجلاً وقوراً يحترمه الجميع، لكن بعد خلافات أُسَرية، انهارت حياته تماماً، فهاجرت زوجته إلى ألمانيا مع أطفاله، ولم يتحمّل فراقهم، فانسحب من الحياة، ووجدناه يوماً نائماً على الرصيف، وهو يقتات على مساعدات بسيطة يقدمها له بعض أصحاب المحال، لكنه لا يطلب شيئاً، يتنقل من مكان إلى آخر فحسب، كمن يبحث عن شيء غائب".
ولم تقدم أي من الحكومات العراقية المتعاقبة برامج لمعالجة ظاهرة التشرّد، وسط مطالبات من ناشطين بتوفير دور لإيواء هؤلاء الأشخاص، خاصة الفتيات والنساء منهم، ومنعهم من أن يكونوا عرضة لاستغلال عصابات التسوّل والاتّجار بالبشر والأعضاء.
من منطقة الباب المعظَّم في وسط بغداد التجاري المزدحم، يقول علي خليل، وهو سائق سيارة نقل عام، إنه يشاهد يومياً العديد من المشرّدين عند الإشارات أو على الأرصفة، ويضيف لـ"العربي الجديد": "ساعدني أحدهم في إصلاح سيارتي عندما تعطلت من دون أن أطلب ذلك".
وتحاول بعض المبادرات الفردية مدّ يد العون للمشرّدين، يشارك الطالب الجامعي يوسف هاشم، متطوعاً في مبادرات خيرية متنوعة، من بينها توزيع الأطعمة على المشرّدين، ويقول لـ"العربي الجديد": "لا نكتفي بتوزيع الطعام عليهم، بل نتحاور معهم، ونستمع إلى قصصهم. الكثير منهم كانوا موظفين، أو لديهم عمل ومكانة في المجتمع، لكن الحياة دفعتهم إلى الشارع بعد صدمات نفسية أو مشاكل تعرضوا لها".
في شارع السعدون التجاري، يجلس سامي جاسم (43 سنة) إلى جانب صندوق كرتوني يحوي خبزاً يابساً وزجاجة ماء، يتحدث على نحوٍ طبيعي حين سؤاله عن حاله، لكنه يصمت لفترة قبل أن يواصل التعبير عمّا يريد قوله، يوضح لـ"العربي الجديد"، أنه كان عاملاً ماهراً في نجارة البناء قبل أن يتعرض لحادث عمل أدى إلى كسر ساقه، ويضيف: "لم أتلقَ أي تعويض، وصاحب المشروع اختفى، ووجدت نفسي فجأة بلا مأوى، فأصبحت أنام في الشارع، في الشتاء البارد، وفي الصيف الحارق. أفرح حين يترك لي أحدهم كيس خبز أو بطانية"، لكنه لا يجيب حين سؤاله إن كانت لديه أسرة أو أقارب.
وتعد مرائب السيارات العامة من أهم الأماكن التي يلجأ إليها المشردون للنوم، أو الحصول على الطعام، فهي تعمل على مدار الساعة، يعرف كثيرون الأربعيني النحيل فاضل، وهو مستقر عادة في مرآب النهضة، يتنقل بين المحالّ والمطاعم، يحمل كيساً قديماً فيه ملابس وصورة لوالدته، التي يصفها بأنها "كل ما تبقى من حياة سابقة. لكنها ماتت"، من دون أن يوضح المزيد عن أسرته.
يحرك فاضل رأسه يميناً وشمالاً حين يحاول التحدث، ويبدو أنه تعرض لصدمة أثرت على سلوكه، يقول لـ"العربي الجديد": "البعض يخاف مني، وآخرون يعاملونني جيداً. أجمل ما قد يفعله أحدهم هو أن يسألني ببساطة كيف حالك اليوم؟".
ويُرجع الباحث الاجتماعي مهند الطائي، تفاقم ظاهرة التشرد إلى التغيرات العميقة التي شهدها العراق بعد عام 2003، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن "الانهيار المؤسّساتيّ وغياب الدولة وتفشي الفساد كلّها عوامل أسهمت في دفع فئات من المجتمع إلى البقاء على الهامش. الأزمات النفسية تلعب دوراً كبيراً أيضاً، سواء تلك الناتجة عن الفقد، أو الطلاق، أو النزوح، أو الإدمان، وكلها مشاكل سجلت ارتفاعاً بنسب خطيرة في المجتمع العراقي، وغالباً ما يتحمل الضحايا المسؤولية وحدهم في نظر المجتمع، رغم أنهم نتاج إخفاقات متراكمة، فردية ومؤسساتية".
