عندما تصبح غزة رهينة صراعات إسرائيل الداخلية
عربي
منذ 3 ساعات
مشاركة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة (في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، بات واضحاً أنه لا يمكن الفصل بين تصرفات إسرائيل وقراراتها العسكرية، وبين المصالح والأهداف السياسية الداخلية الضيّقة. لم يعد ذلك سراً أو مفاجئاً؛ إذ وسط صراعات إسرائيل الداخلية أصبح الحفاظ على التحالف الحكومي في دولة الاحتلال يفسر - ولا يزال - العديد من القرارات العسكرية وطريقة إدارة الحرب على القطاع والضفة الغربية المحتلة.

تنعكس صراعات إسرائيل الداخلية حالياً، من خلال صراع من نوع جديد، لم تعرفه من قبل، بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ورئيس جهاز الأمن العام (الشاباك) رونين بار. وانشغل المجتمع والإعلام في إسرائيل، خلال الأسبوع الأخير، بسباق التهم المتبادلة بين بار ونتنياهو، وذلك في أعقاب إرسال بار "تصريحاً مشفوعاً بالقسم" (يشمل معلومات ووقائع معروفة بشكل شخصي) إلى المحكمة العليا، في إطار الالتماس المقدّم ضد قرار الحكومة إقالته. تفاصيل النزاع بين بار ونتنياهو، ومضمون التصريح، يكشفان عمق التصدع القائم بين جهاز الشاباك ورئيس الوزراء، ويفسران كثيراً من أهداف نتنياهو ونياته في إدارة شؤون دولة إسرائيل والحرب على قطاع غزة، خلال العام الأخير.

ادّعى بار، من بين أمور أخرى، أن نتنياهو طلب منه أن يطيعه شخصياً وألا يطيع المحكمة العليا في حال وقوع مواجهة دستورية. كما طلب أن يتولى جهاز الأمن العام تعقّب متظاهرين بارزين ضد خطة الحكومة لتقييد صلاحيات القضاء في مطلع عام 2023. كما حاول نتنياهو أن يقنع بار بالتوقيع على إفادة أُعدت في مكتبه، تنصّ على عدم تمكنه من الإدلاء بشهادته في محاكمته (بشأن الفساد) لدواعٍ أمنية. صراع آخر من صراعات إسرائيل الداخلية يتعلق بما يسمى إسرائيلياً بقضية "قطر غيت" (مزاعم تلقي أموال من قطر للمساهمة في الترويج لها) وتسريب الوثائق السرية من مكتب رئيس الوزراء، التي يُشتبه بتورط مقربين من نتنياهو فيها. فقد كتب رئيس "الشاباك" في تصريحه أن "هناك شبهات خطيرة بوقوع مساس بأمن الدولة، والإضرار بمفاوضات تحرير الأسرى (المحتجزين الإسرائيليين)، وتعزيز قوة حركة حماس، والإضرار بعلاقات إسرائيل مع مصر".

تشكّل اتهامات بار لنتنياهو سابقة في تاريخ وطبيعة العلاقة بين السلطة التنفيذية والأجهزة الأمنية في صراعات إسرائيل الداخلية. فهذه هي المرة الأولى التي يكون فيها جهاز الشاباك طرفاً في صراعات إسرائيل الداخلية العلنية داخل المنظومة السياسية، وجزءاً من الصراع الدائر بين سلطات الحكم والمؤسسات المختلفة، ما يشير إلى تآكل الترتيبات الدستورية والسياسية القائمة. والأهم، من وجهة نظر إسرائيلية، أن اتهامات بار تعكس فقدان الثقة لدى إحدى المؤسسات الأمنية المركزية (الشاباك) برئيس الحكومة وبالاعتبارات التي يضعها في اتخاذ القرارات الأمنية والعسكرية. ولاحقاً، أعلن بار، مساء أول من أمس الاثنين، استقالته وقراره إنهاء مهامه في 15 يونيو/ 2025، وذلك خلال كلمة ألقاها في مراسم إحياء ذكرى قتلى الجهاز التي أقيمت في مقر الشاباك. وعقب ذلك أكدت الحكومة الإسرائيلية الثلاثاء تراجعها عن قرار إقالة بار. وقالت الحكومة في وثيقة قدمتها إلى المحكمة العليا وحصلت وكالة فرانس برس على نسخة منها: "قررت الحكومة إلغاء قرارها الصادر في 20 مارس 2025"، في إشارة إلى قرار إقالة بار.

خطورة صراعات إسرائيل الداخلية

كانت صراعات إسرائيل الداخلية الأخيرة مادة دسمة في الصحافة الإسرائيلية، إذ وصف عدد من الصحافيين الإسرائيليين رسالة بار وما تضمّنته من اتهامات بأنها الأخطر في تاريخ إسرائيل. على سبيل المثال، قال المحلل السياسي في صحيفة هآرتس يوسي فيرتير، في 22 إبريل/ نيسان الحالي، إن "التصريح الذي قدّمه بار يؤكد أن نتنياهو يشكل خطراً فورياً على الديمقراطية، وعلى مبدأ سيادة الدولة، وعلى معايير النزاهة والعدل، وعلى الصهيونية". وأضاف أن "الإعلان المطلوب عن تعذّر أهليته لمنصب رئيس الحكومة لن يتم، إلا أن رؤساء المحكمة العليا يجب أن يأمروا بفتح تحقيق جنائي ضد نتنياهو".

وقال أوري مسغاف، في الصحيفة نفسها، قبلها بيوم واحد، إن يوم 21 إبريل 2025 سيُسجّل في ذاكرة المؤرخين باعتباره يوماً ظهرت فيه أخطر وثيقة رسمية في تاريخ دولة إسرائيل، "وثيقة صادمة ومخيفة". ورأى أن ما تم تقديمه هو بمثابة لائحة اتهام، وليس مجرد إفادة، مشيراً إلى أن مثل هذا القدر من سوء النيّة لم يُنسب قط إلى أي رئيس وزراء إسرائيلي، رغم أن كثيرين أخطأوا وفشلوا وارتكبوا زلات. لم يوجد شخص، وفق مسغاف، مثل نتنياهو، الذي حاول عن وعي تدمير الديمقراطية الإسرائيلية والوجود الإسرائيلي لصالح مصالحه الشخصية والعائلية. وخلص إلى أن النتيجة العملية الوحيدة الممكنة مما ورد في التصريح هي ضرورة اعتقال نتنياهو احترازياً، من أجل إنقاذ دولة إسرائيل، فوراً.

تكشف إفادة رئيس الشاباك، وفقاً للصحافي جيدي فايتس، في هآرتس، يوم 21 إبريل الحالي، كيف يستخدم رئيس السلطة التنفيذية القوة التي أودعها الجمهور بين يديه للإضرار بالإجراء الجنائي القائم ضده، وفي طريقه يدوس على كل مؤسسة ترفض الانصياع لإملاءاته. ورأى فايتس أن هذه الحادثة وحدها تستدعي، ليس فقط إبعاد نتنياهو عن منصب رئيس الحكومة، بل أيضاً فتح تحقيق جنائي ضده بشبهة خيانة الأمانة، والحصول على منفعة عن طريق الخداع، وعرقلة سير العدالة. من جهته، تساءل الصحافي عاموس هرئيل، في هآرتس، يوم 25 إبريل الحالي: "من نصدق، نتنياهو أم بار؟"، وأجاب أن جميع رؤساء أجهزة الأمن الذين عملوا تحت قيادة نتنياهو منذ عام 1996 تقريباً دخلوا في خلافات معه، ووجهوا بعد انتهاء مهامهم اتهامات قاسية ضده. تمحورت تلك الاتهامات، وفق هرئيل، حول مشكلات تتعلق بالمصداقية، موضحاً أن فقدان الثقة أصبح جزءاً مركزياً من تعامل رؤساء الأجهزة الأمنية مع نتنياهو، وليس ظاهرة حديثة أو طارئة.

ادعاءات بار تجاه نتنياهو قاسية وخطيرة جداً وفقاً للقراءات الإسرائيلية

ادعاءات بار تجاه نتنياهو قاسية وخطيرة جداً وفقاً للقراءات الإسرائيلية. فقد كشفت أن نتنياهو مهووس بالحفاظ على التحالف الحكومي، وبمحاولات التهرب من محاكمته الجنائية (الفساد)، وأنه سعى إلى توظيف جهاز الأمن الداخلي في صراعاته السياسية، خصوصاً في مواجهة حملات الاحتجاج التي اندلعت في مطلع عام 2023 اعتراضاً على الخطة الحكومية لتقييد صلاحيات القضاء. بوجه عام، حاول نتنياهو التصرف كزعيم استبدادي عبر استهداف معارضيه ومنتقديه، والحفاظ على حكمه وسلطته، والاستمرار في الحرب على قطاع غزة، وعرقلة التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى والمحتجزين. كل ذلك من خلال التحايل، وتبديل طاقم المفاوضات، واعتماد سياسات التخويف والتهويل، وبطبيعة الحال، اللجوء إلى الكذب، بغية تحقيق مصالحه السياسية والشخصية والأيديولوجية في آنٍ واحد. المؤلم أكثر أن كل ما يحدث من صراعات إسرائيل الداخلية ينعكس باستمرار القتل والدمار والتجويع في قطاع غزة والضفة الغربية، من دون أن يحظى بأي تطرق أو اهتمام يذكر في الانتقادات الموجهة من قبل الإعلام والصحافة في إسرائيل. بمعنى آخر، فإن سكان القطاع هم من يدفعون ثمن رغبة نتنياهو في الحفاظ على حكمه، وتهربه من المحاكمة، وسعيه للإبقاء على التحالف الحكومي.

 لم يتم استثمار صراعات الحكومة الإسرائيلية فلسطينياً وعربياً ودولياً للضغط على إسرائيل لوقف حرب الإبادة

رغم وضوح هذه الحقيقة لجزء كبير من المجتمع الإسرائيلي، ولوسائل الإعلام والصحافيين، وحتى للقيادات السياسية في المعارضة الإسرائيلية، لم يتم استثمار هذا الكشف وهذه الحقائق في أي محاولة فلسطينية أو عربية أو دولية لممارسة ضغط حقيقي على الحكومة الإسرائيلية لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة، ولا في محاولة للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي لدفعه للضغط من أجل إنهاء الحرب.

سموتريتش يوضح أهداف الحرب... مرة أخرى

ما زاد الطين بلة في صراعات إسرائيل الداخلية كانت تصريحات رئيس حزب الصهيونية الدينية، وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، للإعلام في 21 إبريل الحالي، التي أكد فيها أن إعادة المحتجزين ليست الهدف الأهم. وأضاف سموتريتش: "دعونا نتخذ قراراً بإنهاء قضية غزة مرة واحدة وإلى الأبد، دعونا نبني الثقة مع الشعب ونثبت أننا نحقق الهدف وندمر حركة حماس. من يريد تدمير حماس وإلغاء إمكانية وقوع (7 أكتوبر) آخر، عليه أن يفهم أنه لا يمكن أن يبقى وضع في غزة تستمر فيه حماس قائمة وحاضرة". سموتريتش ليس وزيراً هامشياً في التحالف الحكومي، رغم عدد مقاعد حزبه القليل في الكنيست (سبعة أعضاء من أصل 120). وزنه النسبي داخل الائتلاف والحالة السياسية الإسرائيلية أعلى بكثير مما تعكسه الأرقام، ولذلك لا يتردد في التهديد بالانسحاب من الحكومة. أولاً، لأن انسحاب سموتريتش يعني بقاء التحالف الحكومي مع دعم 61 عضو كنيست فقط، ما يحوّله إلى ائتلاف هش وضعيف يعتمد بشكل كبير على رضا ومواقف الوزير (الأمن القومي) المتطرف الآخر إيتمار بن غفير، بل ويجعله عرضة لابتزازاته. وفي الواقع السياسي والحزبي الإسرائيلي، فإن تحالفاً يستند إلى 61 عضو كنيست يُعتبر تحالفاً غير قابل للحياة لفترة طويلة.

ثانياً، يمثل سموتريتش تيار اليمين الأكثر تطرفاً وتديناً في المشهد السياسي الإسرائيلي، وهو، بالمناسبة، تيار أشكنازي من أصول غربية، مرتبط بالمعهد الديني "مدرسة مركز الراف" في القدس المحتلة، الذي يُعد من المؤسسات المؤسِسة لتيار الصهيونية الدينية الحديث. ويمثل هذا الارتباط مصدر قوة إضافياً لسموتريتش، إذ إن نتنياهو لا يرغب في الدخول في صراع حاد مع اليمين المتطرف الأشكنازي أو أن يتهم من قبله بالتفريط بمصالح إسرائيل الأمنية والدينية، لما قد يترتب على ذلك من ارتدادات تتجاوز التأثير المباشر لحزب الصهيونية الدينية، وتمس مكانة نتنياهو بين شرائح اليمين المتطرف الأوسع. حتى وإن كانت بعض هذه القواعد غير راضية عن أداء سموتريتش الحالي وتراجع شعبيته في استطلاعات الرأي العام. بهذا المعنى، يُعد سموتريتش ممثلاً لليمين المتطرف الديني العقائدي التاريخي، ومن النواة الصلبة للتيار الاستيطاني، وهو أكثر أهمية وتأثيراً من بن غفير وحزبه "القوة اليهودية"، الذي يُعتبر في السياق الإسرائيلي تياراً شعبوياً متطرفاً كان منبوذاً لسنوات طويلة من قبل المنظومة الحزبية.

يواصل سموتريتش فرض شروطه على نتنياهو لاستمرار الحرب وتوسيعها والقضاء على حركة حماس

يواصل سموتريتش فرض شروطه على نتنياهو لاستمرار الحرب وتوسيعها والقضاء على حركة حماس، مهدداً بالانسحاب من التحالف الحكومي إذا لم تتم تلبية مطالبه. وطالب أخيراً، خلال اجتماعات مجلس الوزراء المصغر (الكابينت)، الأسبوع الماضي، بأن يتولى الجيش الإسرائيلي مسؤولية إدخال المساعدات والمواد الغذائية إلى قطاع غزة، واشتراط ذلك لبقائه في الحكومة، كما بدأ بمهاجمة رئيس الأركان الجديد إيال زامير، الذي اعتُبر مقرباً من أحزاب اليمين. ويبدو أن سموتريتش نجح في منع اتخاذ قرار كان من شأنه السماح بإدخال المساعدات والمواد الغذائية إلى قطاع غزة وتوزيعها عبر شركات أميركية. كل ذلك يوضح أن سكان القطاع لا يدفعون فقط ثمن الرغبة الإسرائيلية الجماعية بالانتقام، وعمل إسرائيل للقضاء على أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية، ولا ثمن محاولة إسرائيل إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط وفقاً لمصالحها الاستراتيجية، بل يدفعون أيضاً ثمن الصراعات السياسية الداخلية في إسرائيل.

أخبار ذات صلة.

( نوافذ يمنية) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

جميع الحقوق محفوظة 2025 © نوافذ يمنية