في قلب العاصمة السورية دمشق، عند تقاطع شارع فيكتوريا المزدحم، يقف رجل تخطى الثمانين عاماً، لكنّه ما زال يؤدي عمله بتفانٍ كما لو كان شاباً في مقتبل العمر. محمد زياد شهوان، الشرطي الذي أصبح جزءاً من ذاكرة المكان، فهو ليس مجرد مُنظم لحركة المرور، بل إنّه تجربة إنسانية تتجاوز حدود المهنة.
منذ عام 1968، انتسب شهوان إلى سلك الشرطة، ليبدأ رحلته الطويلة في خدمة الناس، دون أن يُسجّل مخالفة واحدة، مكتفياً بالنصح والإرشاد. بالنسبة له، لم يكن دوره يقتصر على تطبيق القوانين، بل أيضاً بناء علاقة احترام متبادل بينه وبين السائقين، الذين صاروا يهابون المخالفة ليس خوفاً من العقوبة، بل احتراماً له. حين أحيل إلى التقاعد قبل 30 عاماً، لم تكن نهاية المطاف بالنسبة له، بل اختار البقاء في موقعه، متجاوزاً الصعوبات المعيشية والظروف التي فرضتها الحرب على البلاد، وعندما عصفت الأزمات بدمشق، ظل واقفاً وسط التقاطع، يؤدي عمله رغم القذائف التي كانت تتساقط بالقرب منه.
"الله قضى بألّا تصيبني القذائق بأي مكروه"، يقول شهوان لـ"العربي الجديد"، مستذكراً تلك اللحظات العصيبة. في أيام غيابه، يسأل عنه الجميع: المسؤولون، أصحاب المحال، السائقون، وحتى المارة، وكأنه جزء لا يتجزأ من هوية المكان. وحينَ منعَه تقدّمه في السنّ من العودة إلى العمل رسمياً، دفع تجاوب الناس معه السلطات إلى السماح له بالوقوف مجدداً وسط تقاطع فيكتوريا، وكأنّ عودته كانت ضروريةً لتنظيم الفوضى.
ورغم الظروف الصعبة التي مرّ بها، فإنّ لديه إيماناً بأن كلّ المهن، كالأطباء والمهندسين وعمال الخدمات، تكمّل بعضها البعض، فمن الضروري حبّ المهنة لكي يكون الإنسان مؤثراً في مجتمعه. وبعد انقطاعه عن العمل مدة ثلاثة أشهر، وجد نفسه محبوساً داخل المنزل، منتظراً أن يحضر له ابنه احتياجاته، لكنّه اليوم يخدم نفسه كما يخدم زوجته.
يؤكد شهوان لـ"العربي الجديد" أنّ الإدارة الجديدة رفضت في البداية عودته إلى العمل بحكم عمره رغم أنه عرض العمل متطوعاً لتنظيم السير، و"اليوم أُعدتُ إلى العمل بعقد قيمته 120 دولاراً، فيما كان راتب التقاعد يبلغ 270 ألف ليرة فحسب"، وهو مبلغ بالكاد يكفي لمعيشة يومَين، وسط صعوبات إضافية تتعلق بالحصول على الضروريات الأساسية كالغذاء والغاز والخبز، معتبراً أن العودة إلى العمل كانت ضرورية للخروج من حالة الاكتئاب والتعب التي ألمّت به.
بعد أكثر من نصف قرن من العمل، لا يزال شهوان يعتبر مهنته امتداداً لحياته الشخصية؛ فهو لم يكن مجرد شرطي مرور، بل صديقاً للمدينة وساكنيها، وشاهداً على تحوّلات الزمن، وحارساً لا يملّ من أداء واجبه، حتّى وإن لم يعد ملزماً به رسمياً. في زمن تغيّرت فيه الكثير من الأمور، بقي شهوان ثابتاً في مكانه، كأنّ وجوده هناك رسالة بأنّ الإنسان يمكنه أن يصنع فرقاً، مهما بلغت صعوبة الظروف.
Related News

