
على مدار 13 عاماً بقي "مهرجان فيلم المرأة" (عمّان، الأردن)، مساحة سينمائية مخصصة لاستكشاف وسرد قصص النساء وقضاياهن عبر عدسة الفن السابع. من خلال اختياراته السنوية، حاول المهرجان أن يسلط الضوء على تجارب أنثوية متنوعة، معالجاً مواضيع كالهوية، والاستقلالية، والصراع مع المجتمع والتقاليد، وقضايا التمكين والتمييز والتحديات الشخصية والمهنية. هذا العام يستمر المهرجان، الذي انطلق يوم أمس ويتواصل حتى 15 إبريل/ نيسان 2025، في تقديم مجموعة من الأفلام التي تجمع بين الروائي والوثائقي، والقصير والطويل، مستعرضاً بذلك طيفاً واسعاً من المواضيع والثيمات النسوية، عبر حكايات مثل نضال سامية، العداءة الصومالية، أو التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها أرزة، الأم اللبنانية، مروراً بالتجربة الذاتية والشخصية لـ"زفاف روزا" الإسباني، وحتى تأملات "ديامانتي" الإيطالي في عالم الموضة والتنافس النسائي.
تسلط أفلام مهرجان فيلم المرأة 2025 الذي يقام بتنظيم الهيئة الملكية للأفلام، الضوء على طيف من القضايا التي تلامس واقع النساء حول العالم، فجاءت موزّعة بين موضوعات اجتماعية وسياسية ونفسية، بأساليب سردية متنوّعة وزوايا إنسانية مؤثّرة.
برزت في البرمجة ثيمة التحرر الشخصي وإعادة بناء الذات، كما في فيلم "زفاف روزا" (إسبانيا)، إذ تختار البطلة أخيراً أن تنحاز لنفسها وتبدأ مشروعها الخاص بعد عمر من التنازلات، وكذلك في "80 فما فوق" (النمسا)، الذي يرافق امرأتين مسنّتين في رحلة كرامة ومصالحة مع النهاية.
أما النضال ضد القيود المجتمعية، فقد حضر بقوة في فيلم "سامية" (الصومال)، الذي يسرد رحلة عدّاءة تواجه التقاليد بعناد الحلم، و"فتاة الدراجة النارية" (باكستان)، إذ تتحوّل الدراجة إلى أداة مقاومة فردية لأنثى تتحدى نظرة المجتمع. تتجلى ثيمة الهوية والشتات والعودة إلى الجذور في "باي باي طبريا" (فلسطين)، عبر حكاية أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات، و"رو" (كندا)، التي ترصد محاولة فتاة لاجئة من فيتنام الاندماج في وطن بديل يحاكيها ويخذلها في آن. يتناول "النظام المقدس" (سويسرا)، و"الوصايا" (المغرب)، أبعاد التمكين السياسي والاجتماعي من زوايا متباينة، الأولى تستعيد نضال نساء سويسرا من أجل حق التصويت، والثانية توثّق صراع امرأة مغربية من أجل حضانة ابنتها في وجه سلطة القانون والعائلة.
على الجانب الآخر، يعالج "سكون" و"سنو وايت" (مصر)، مساحات العنف والتمييز في البيئات المغلقة، الأولى من خلال بطلة صمّاء تواجه القسوة في ساحة تدريب، والثانية في تساؤلات فتاة تخفي جسدها خلف فلتر رقمي هرباً من قسوة معايير الجمال. ويقدّم وثائقي "أفضل ربة منزل لهذا العام" (أيرلندا)، سرداً ساخراً وناقداً لفكرة المرأة المثالية في الإعلام والتقاليد، وكيف شكّلت هذه المسابقة أداة تأطير لدور المرأة لعقود، قبل أن تتحوّل إلى منصة وعي وتغيير. وأخيراً، يقدّم فيلم "42.195" (المكسيك)، تجربة بصرية وإنسانية عن الشغف والرياضة باعتبارهما أداة تحرّر، عبر قصص نساء من ثقافات متباينة يجمعهن الجري باعتباره مساحة للحرية، وتعبيراً عن الانتماء إلى أجسادهن وتاريخهن معاً.
هذه الثيمات، برغم تنوعها الجغرافي والسردي، تلتقي عند سؤال جوهري واحد: كيف يمكن للسينما أن تكون مرآة ورافعة في آن، تعكس هشاشة المرأة وقوتها، وتوسّع صوتها خارج حدود القصة؟
يأتي فيلم "أرزة" للمخرجة ميرا شعيب، تحيةً صادقة للمرأة المنهكة التي تصارع من أجل البقاء في واقع مأزوم. عبر قصة أم عزباء تجوب بيروت مع ابنها المراهق بحثاً عن دراجتهما المسروقة، يرسم الفيلم ملامح حياة تعيشها كثير من النساء، إذ تُختصر الكرامة بلقمة العيش، وتتحول الأبوة والأمومة إلى معركة فردية وسط مدينة منهكة. في "سامية"، تقدّم ياسمين سامديرلي وديكا محمد سيرة حقيقية لعدّاءة صومالية شابة تحاول اختراق الحواجز الاجتماعية والدينية لتصل إلى حلمها الأولمبي. لم يكن الجري مجرد رياضة، بل فعل مقاومة، والبطلة لم تكن فقط رياضية، بل امرأة تسعى إلى الحرية وسط مجتمع يلاحقها بالخوف والعقبات. أما فيلم "زفاف روزا" للمخرجة إيثيار بويين، فيجسّد لحظة تمرّد مؤجّلة لامرأة خمسينية تُقرر أن تختار نفسها بعد سنوات من التضحية. لا تكتفي روزا بإلغاء زفافها، بل تحتفي بزواج رمزي من ذاتها، في عمل لطيف يُشبه ثورة ناعمة تنفجر من داخل امرأة صامتة لطالما كانت في الخلفية. بينما يستحضر "ديامانتي" للمخرج فيرزان أوزبيتِك الزمن الجميل للسينما الإيطالية من خلال لقاء يجمع ممثلات سابقات داخل مشغل خياطة قديم. في أجواء رومانية حالمة، يعرض الفيلم مساحات من الحنين، والتنافس، والاعتراف، ليكشف هشاشة النساء خلف الكاميرا وأمامها، ويُقدّم قراءة دقيقة لعالمهن الداخلي المعقّد. أما في "النظام المقدس"، فتُعيد بيترا بيوندينا فولبي تمثيل لحظة مفصلية في التاريخ السويسري، حين قادت نساء نضالاً من أجل الحصول على حق التصويت. الفيلم لا يسرد فقط صراعاً قانونياً، بل يرسم ببراعة التحولات النفسية التي تمر بها بطلاته، ويعكس كيف يمكن لحراك محلي أن يهز مفاهيم السلطة والجندر.
في المقابل، فإنّ "سكون"، للمخرجة دينا ناصر، فيلم قصير لكنه حاد، يحكي عن بطلة كاراتيه صمّاء تواجه التحرش الجنسي في مركز التدريب. الفيلم يحمل حساسية بصرية عالية، ويغوص في داخل الشخصية ليُظهر أثر العنف الصامت على الهوية والكرامة، ويؤكد على ضرورة منح المساحة الكاملة لأصوات النساء المهمّشات. وفي "الوصايا"، تقدّم سناء عكرود حكاية مغربية عن امرأة تقف في مواجهة مجتمعها وزوجها السابق بعد معركة على حضانة طفلتها. تروي القصة من خلال تسع وصايا، تمنح العمل طابعاً روحياً وعاطفياً، وتسائل الأعراف والقوانين التي تحاصر النساء باسم الدين أو العائلة أو العار.
يأخذنا فيلم "42.195"، للمخرج أليخاندرو شتراوس، إلى مسارات ماراثونية تتقاطع فيها حكايات خمس نساء من ثقافات متنوّعة. الجري هنا ليس بطولة رياضية، بل طقس تحرر واستعادة للجسد. كل خطوة تعبّر عن تحدٍ داخلي، وكل عرق هو سردية مصالحة بين المرأة وجسدها وتاريخها. بدوره، يقدم كيران كاسيدي في "أفضل ربة منزل لهذا العام"، وثائقياً ذكياً يستعرض مسابقات أقيمت في أيرلندا لتقييم "أفضل زوجة". عبر مقابلات حقيقية، يتحوّل الفيلم من وثيقة أرشيفية إلى نقد اجتماعي لاذع، يكشف كيف شكّلت المؤسسات الإعلامية صورة المرأة المثالية لسنوات، قبل أن تُعيد النساء أنفسهن تعريف المعايير. بينما يتناول كل من غيرهارد إرتل وسابين هيبلر، في "80 فما فوق"، حكاية هيلين، الممثلة التي وجدت نفسها في دار مسنين، ثم قررت الهروب للعودة إلى المسرح. فيلم يفيض بالحياة رغم عمر شخصياته، يعالج الشيخوخة من زاوية الكرامة والشغف، ويحتفي بقدرة المرأة على التمرّد حتى في أواخر العمر. يُعيد فيلم "فتاة الدراجة النارية" للمخرج عدنان سَرور سرد قصة واقعية لزينيث عرفان، أول باكستانية تقود دراجة نارية عبر البلاد. يُصوّر الفيلم شغف البطلة بالرحلة، ليس فقط عبر الطريق، بل نحو الذات. تحدّي المجتمع لم يكن خياراً، بل ضرورة لامرأة قررت أن تفتح درباً جديداً لمن بعدها.
ترسم لينا سويلم في "باي باي طبريا"، الذاكرة الفلسطينية من خلال عدسة شخصية. رحلة مع والدتها الممثلة هيام عباس إلى قريتهما الأصلية تتحول إلى بحث عن الهوية، ومرآة لجراح الأجيال النسائية التي نزحت وسكنت في المنافي. الفيلم وثائقي حميمي، يعيد الاعتبار لحكايات الأمهات والجدات.
يُختتم المهرجان مع "سنو وايت" للمخرجة تغريد أبو الحسن، الذي يحكي عن شابة قصيرة القامة تلجأ إلى الفلاتر الرقمية لإخفاء "اختلافها". في زمن مثقل بالصورة وهاجس الكمال، تطرح المخرجة سؤالاً جريئاً: هل نحب أنفسنا كما نحن، أم كما نُعدّلها؟ عمل يعاين نظرة المجتمع للجمال، ويعيد تعريف الصدق في الحب والعلاقات.
ليست سينما المرأة مجرّد مساحة لعرض الأفلام التي تتناول قضايا النساء، بل هي ممارسة جمالية ومعرفية تتجاوز الترفيه إلى إعادة تشكيل الوعي البصري من داخل التجربة النسوية نفسها. إنها سينما تُكتب من الجسد، وتُروى من الداخل، ليس من الخارج الذي لطالما احتكر تمثيلها. لا تسعى إلى إرضاء المتلقي، بل لقول ما هو مكتوم، ولفتح المسكوت عنه بلغة الصورة، والجرح، والنجاة. في هذا النوع من السينما، لا تُصوَّر المرأة كرمز أو ضحية أو استثناء، بل كإنسانة كاملة؛ أمًّا، وعاملة، وعاشقة، وابنة، ثائرة أو صامتة، تُصارع هشاشتها وتحتفي بوجودها كما هو، بلا تزييف.
يأتي تحوّل "أسبوع فيلم المرأة" هذا العام إلى "مهرجان فيلم المرأة" مؤشراً يُفترض أن يعكس نقلة نوعية، ليس فقط من ناحية التسمية، بل على مستوى البنية والخيال السينمائي والفكري. فالانتقال من "أسبوع" إلى "مهرجان" يحمل وعداً بتوسيع المنصة، وخلق حضور ثقافي أوسع، وبرمجة أكثر تنوّعاً. وقد تجلّى ذلك إلى حد ما في تعدّد الجنسيات المشاركة، والانفتاح على لغات وتجارب نسائية من خلفيات غير معتادة، ما منح هذه الدورة بُعداً أشمل من سابقاتها. لكن، ورغم هذا التحول الرمزي، تبقى التساؤلات قائمة: هل انعكس هذا التطوّر في عمق المضمون؟ هل اتّسعت المساحة للحوار الجمالي والفكري؟ هل بات المهرجان منصة فعلية للنقاش والنقد والتجريب؟
الإجابة، في هذه النسخة على الأقل، لا تزال جزئية. فبينما واصلت البرمجة تقديم أفلام ذات طابع إنساني حساس، يلاحظ استمرار اعتماد المهرجان على نماذج مألوفة: الأم العزباء، المرأة التي تقاوم السلطة الذكورية، الحكايات القادمة من مجتمعات محافظة تبحث عن التمرّد. وهي كلها موضوعات مهمة، لكن الخطاب السينمائي النسوي العالمي تخطّاها منذ سنوات نحو قضايا أكثر تقاطعاً وتعقيداً، مثل تأثير التقنية على الجسد الأنثوي، تقاطعية العرق والجندر، والنسوية البيئية، أو النسوية الكويرية في مناطق النزاع. كما أن المهرجان لا يزال يُعاني من محدودية في منهجيته التفاعلية: فلا ورش سينمائية موازية، ولا نقاشات نقدية مفتوحة، ولا منصات تحليلية تُرافق العروض. وهذا ما يحرمه من أن يتحوّل إلى حدث سينمائي حي ومتعدد الطبقات، ويجعله أقرب إلى أرشيف سنوي منه إلى حراك ثقافي قادر على التأثير.
لذا، ومع التقدير لجهود فريق المهرجان في الاستمرارية وإتاحة هذه المساحة للنساء، فإن الخطوة القادمة يجب أن تكون باتجاه بناء هوية فكرية واضحة، تُجذّر المهرجان بصفة مؤسسة للسينما النسوية، وليس فعالية موسمية. يجب أن يكون فضاءً للتجريب، للمواجهة، للتفكير في "من تُمثّل المرأة؟"، و"كيف يتم تمثيلها؟"، و"لمن تُروى هذه الحكايات؟".
ففي زمنٍ تتسارع فيه الحركات النسوية، وتتشظّى الأصوات والخطابات، لا تحتاج مهرجانات المرأة فقط إلى أفلام جيدة، بل إلى بنية نقدية وفكرية توازيها في القوة والجرأة، وتعيد تعريف العلاقة بين السينما والجمهور، بين الفن والتغيير.

Related News
