
في كتابه "في الرواية ومسائل أخرى"، قال الروائي الفرنسي إميل زولا: "إن أجمل ثناء يمكن أن نخصَّ به روائياً في الماضي يتمثّل في القول إنه يتمتع بمخيلة". يُعتبر هذا القول بالضبط، والكلام لزولا أيضاً، انتقاداً للروائي في أيامه، لأنّ شروط الرواية قد تغيّرت، ولم تعد المخيّلة هي الخاصيّة الرئيسة للروائي.
فكلٌّ من ألكساندر دوما، وأوجين سو، وفيكتور هوغو؛ وهم من الروائيّين الذين سبقوا زولا، تمكّنوا من تخيّل شخوص وحبكاتٍ وأحداثٍ غاية في الإثارة، بينما يميل روائيون معاصرون له، مثل بلزاك، وستندال، وفلوبير، إلى القول بأنَّ محور الإبداع لديهم هو تصوير ملامح الحقبة التاريخية التي يعيشون فيها، حين لم يعد للمخيّلة أي دورٍ ذي بالٍ في الرواية.
والملاحظة طريفة بالمقارنة مع عصرنا الحالي، الذي استعاد المخيلة، وصار يمجّدها أيضاً، وخاصة منذ أن نشأت الرواية في أميركا اللاتينية، وقدّمت أعظم صورها أو إبداعاتها، في أدب كبار الكتّاب هناك، من أليخو كاربنتييه؛ الذي يمزج الخيال المتحرّر من أي رابطة بالواقع المفصّل الذي يسجل الحاضر بكل دقة، إلى خوان رولفو صاحب رواية "بيدرو بارامو" التي تضع الواقع نفسه في قالب المتخيّل، وتكسر الحواجز بينهما، وصولاً إلى غابرييل غارسيا ماركيز في رواية المخيلة الخالصة "مئة عام من العزلة". وهكذا، تتناوب المخيلة والكتابة الواقعية في عالم السرد الروائي.
تتناوب المخيلة والكتابة الواقعية في عالم السرد الروائي
وقد تبدو اللغة النقدية لدى إميل زولا حاسمة ونهائية، وهو يكاد يميل إلى نفي المخيّلة نفياً قاطعاً ونهائياً من العالَم الروائي، إذ يعتبر أن تخلّص روائيي عصره من المخيلة، لم يعد يتحمل مسألة العودة، بينما يقول تاريخ الرواية إن الأمر لا يزيد عن أن يكون أدواراً وخيارات، بل إنها قد تكون في العمق موقفاً من الروائي تجاه العصر، أو الزمن، أو رؤية العالم، أو طبيعة الأحداث في الواقع والرواية.
بل إن المخيلة تقول اليوم إن الحدث الواقعي يمرّ عبر مصفاة فكرية وفلسفية وأخلاقية أيضاً، هي مصفاة المخيّلة، دون أن يصادر حقّ الرواية أو الروائي في المعاينة المباشرة التي لا تستند إلى المخيلة أيضاً. والوضع في هذه الحالة وثائقي مستمد من تاريخ الرواية ومنجزها العظيم في الواقع البشري، منذ تأسيسها، وليس افتراضياً يعتمد على المماحكة.
وهناك احتمال أن يعكس هذا الصراع بين الواقع والمخيلة موقفاً من الرواية: دورها ووظيفتها ومهامها في الحياة الإنسانية، وهو انعكاس لصراع آخر على الوجود، أو تفسير الوجود، بين المذاهب الفكرية والسياسية والأدبية، وقد لا يكون للرواية نفسها شأن في هذا، إذ لم يثبت بعد، في أي أدب، أن الرواية، ذات العناصر التي يغلب عليها المخيلة، كانت أقل تأثيراً في الحياة (ودراسة الأثر نفسها تتطلب عِدةً نظرية وعملية) من تلك التي تستند إلى المعاينة المباشرة.
اللافت أن الرواية الشهيرة التي سخرت من الخيال؛ وهي رواية "دون كيخوته"، صوّر ثربانتس فيها بطله أسيراً للأدب الخيالي، و"نصّب نفسه مدافعاً عن العدالة" بينما كان يحارب طواحين الهواء، وكانت، للمفارقة، من أعظم ما أبدعه الخيال.
* روائي من سورية

Related News

