
في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، لفّ الفنان محمد العزيز عاطف عمله "شاش" على جذوع شجر النخيل عند دوار المنارة في مدينة رام الله، في إشارة إلى جرح الفلسطينيين الواحد مع استمرار الإبادة الإسرائيلية في غزّة مقابل عجزٍ دولي مطبق.
ينتمي عاطف إلى مجموعة الفنانين الشباب في "مرسم 301" الذي تأسّس في بيت لحم عام 2013، وخرج مشروعه عن حرب الإبادة إلى العلن بمادة الشاش، بالتعاون مع "مؤسسة عبد المحسن القطان"، ومعه صابرينا مكركر التي حملت صورة ضخمة تمثّل أفراد عائلة فلسطينية في القطاع، ورفعتها في مسيرة عيد الميلاد عبر شوارع المدينة، في مشهد غير مألوف يمزج بين السياقين الديني والسياسي، إلى جوار جدارية رسمها وائل أبو يابس تشير إلى خيال الفلسطيني ما وراء جدار الفصل العنصري، مقترحاً مشهداً يهدم الجدار ذهنياً في تشابك مع المكان والتاريخ بلا حدود أو جغرافيا، بينما نشرت شذى صافي أعمالاً طباعية في الشوارع العامة لتعبّر عن ارتباط الذات والمكان التلاحمي مع ما يحدث من تطوّرات راهنة.
وفي الوقت نفسه، بدأت مجموعة جديدة من الفنانين الشباب رحلتهم الفنية لأول مرة من خلال مشاركتهم في ورشة ومعرض "في صوت"، الذي نظّمه مرسم 301، ويتخصّص في فن الحفر على الخشب والطباعة اليدوية بوصفه أداة لإحياء العلاقة بين الصورة والفضاء العام. وقد جال المعرض في عدة مدن وبلدات منها بيت لحم ورام الله وكابول في الجليل، مؤكّداً دور الفن وسيلةً للتغيير الثوري. كما تميّزت المجموعة بنشر أعمالها الفنية في الشوارع والأماكن العامة، وضمّت في بدايتها فنانين مثل محمد عبيد الله، ومنى خليل، وكاثرين مطر، ومحمد الراعي، وإسلام محيسن، ووئام معمّر.
ترويج نتاجات الفنانين وإبداعاتهم محلياً وخارجياً بجهد ذاتي
توسّعت المجموعة لاحقاً بانضمام فنانين جُدد، منهم أسيل الجابري، ومايا فرج، وعبد الله حماد، وداليا القيسي، ورؤية شكارنة، ليواصلوا معاً إبداعهم في مجال الفن الطباعي. هاتان المجموعتان شكّلتا جزءاً من مبادرات فنية بديلة برزت بعد السابع من أكتوبر، والتي استعادت أجواء الانتفاضة الشعبية سنة 1987، من خلال السعي نحو الاستقلال عن المؤسسات أو التمويل الخارجي، والتفكير والإبداع والإنتاج بجهد ذاتي وترويج نتاجات الفنانين محلياً وخارجياً.
حراك بعد صمت
مرّت الضفة الغربية بمرحلة من الصمت العميق، مع تفكّك شهدته المؤسّسات الثقافية في ظلّ شبه انقطاع للتمويل ما فرض غياباً للمعارض ومشهداً فنياً بدا وكأنّه يُدفن ببطء منذ "كوفيد – 19" عام 2020، حيث تراجع عدد المراكز وأنشطتها قياساً بالعقد السابق، وإن تعافى المشهد قليلاً بعد التعافي من الجائحة. واشترطت المنظّمات الدولية المموّلة، ومعظمها غربية، على المؤسسات التوقيع على "وثيقة الإرهاب" حتى عام 2022 لحصول أي مؤسسة على المنح والمساعدات.
وبعد عام 2023، جُددت هذه الشروط، بل زادت قسوة، حيث فرضت بعض المؤسّسات الدولية، ومنها الاتحاد الأوروبي والسويد، شروطاً تتضمن إدانة حركة حماس باعتباره شرطاً أساسياً لنيل الدعم، إلى جانب بنود تتعلّق بتوقيع تعهد بعدم التحريض على الكراهية، مع مراقبة طرف ثالث لضمان الامتثال، مما أثار قلقاً بشأن التمييز ضد الفلسطينيين وتقييد حرية التعبير.
فرض إدانة حماس شرطاً رئيسياً لتمويل أي مشروع فني في الضفة
أدت هذه السياسات إلى خيبة أمل كبيرة لدى العديد من المواطنين والفنانين الفلسطينيين، الذين شعروا بأنَّ الدول الأوروبية المموّلة قد تخلت عن مبادئها وإيمانها بالديمقراطية وحقوق الإنسان، الأمر الذي دفع إلى البحث عن أدواتٍ وطرقٍ خاصة للتحرر من التبعية الثقافية والسياسية.
انكشفت الأزمة على مصراعيها مع بدء العدوان على غزّة، مع تحوّل بعض المؤسسات الثقافية إلى مراكز إيواء، وإغلاق أخرى بالكامل، ولم تعد أغلب الجهات الثقافية قادرة أيصاً على التفاعل مع الحدث، عندها برز تساؤل كبير: ماذا بوسع الفنان الفلسطيني أن يفعل؟ ورغم أن الفن الفلسطيني كان دائماً مساحة للمقاومة والتوثيق وليس جديداً على لحظات التحوّل؛ من الانتفاضات، إلى حصار بيروت، إلى الانقسام والحصار، ظهّر الواقع الجديد وكأن كل شيء تُعاد صياغته من جديد.
مبادرات عدّة وأكثر من حلم
"مرسم المخيم" مبادرة انطلقت من مخيم عايدة في مدينة بيت لحم، وجمعت فنانين شباباً بتخصّصاتهم الفنيّة المختلفة مثل السينما والموسيقى والرسم، لإنتاج مشاريعهم وأفكارهم بشكل حرّ، باحثين فيها عن أسئلتهم الجديدة، وتحرير أعمالهم من السياسات العامة للممولين، بما ستقدمه أو تعالجه الاهتمامات الفنية من قضايا ساخنة وراهنة. وفي مجموعة "مساحتي" المسرحية في بلدة بيت جالا، قام أعضاؤها بتنظيم عرضهم المسرحي التفاعلي في فضاء مفتوح في مارس/ آذار الماضي، وكان موجهاً إلى الأطفال عبر السرد القصصي والتفاعلي، حيث استكشف مزاج الشارع العام بخطوات تتجه نحو إنضاج هذه المبادرة وتطويرها.
كذلك انطلق مشروع مضافة بمرسم 301 بالتعاون مع "شاحنة برتقال" في الداخل المحتل، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، في تجربة تجاور بين الفنانين الشباب من مدن ومواقع مختلفة في فلسطين التاريخية من دون حدود سياسية أو اجتماعية. كذلك نشطت مجموعة "إطار فني" التي تأسست في مدينة القدس عام 2021 لدعم الفنانين الشباب وتعزيز التعاون الفني في فلسطين، وأطلقت معرض "إطار" الذي ضمّ ست فنانين وفنانات من مختلف الوسائط الفنية، حيث تتشابك أعمالهم في تأملات حول الذاكرة والأمل. ويستكشف المعرض أيضاً ثيمات الذاكرة، والعلاقة بين الحياة والموت، وتأثير الاحتلال على التجارب الشخصية، وذلك في مخازن مفتوحة، أو أماكن عرض قد تتاح لهم.
من جهته، قدّم "المتحف الفلسطيني" في بلدة بيرزيت في فبراير/ شباط من العام الفائت، معرضه الفني "هذا ليس معرضاً" احتجاجاً على الحرب بمشاركة أكثر من 100 فنان غزّي قدّموا نحو 285 عملاً فنياً، معظمها تمّ جمعها من بيوت المقتنين في الضفة الغربية وصالات عرض أخرى، حيث عرضت بشكل غير تقليدي ودعت إدارة المتحف الجمهور إلى أن يكونوا شركاء في تكوين معنى هذه التظاهرة، بإضافة أعمال جديدة لفنّانين غزيّين توجد بحوزتهم، أو إرشادهم إلى هذه الأعمال حيث توجد، لتكون شاهداً على الفن الفلسطيني في مرحلة لم يشهدها منذ لحظة نشوئها المعاصرة.
* فنان تشكيلي من فلسطين

Related News
