
تبدأ الرواية بحادثة قتل، حيث يقتلُ حسن ابن زياد جدتَه شمسة. لن نقف طويلاً عند الحادث، في الواقع يتطلّب هذا منّا أن نطوي سطراً واحداً، ولا يصمد الخبر لأكثر من جملة. الحادث سنعود إليه غير مرّة في الرواية، لكنه دائماً ليس سوى خبر سريع، بحيث لا نكاد نعرف مكانه في "ذئب العائلة"، الرواية الصادرة عن "دار نوفل" للكاتب اللبناني صهيب أيوب.
لقد قتل حسن جدته شمسة، لكن هذا الحدث بلا بداية وبلا مسار، إنه يأتي بغتة ويذهب بغتة، فليس من شأن أيوب أن يتوسع في حوادث روايته. نحن في الرواية نجد الأشياء تتواتر، نجد الجزئيات واللمحات الصغيرة تتراكم وتتساند، لتبني لوحات هي في الغالب يومية ومتلاحقة، تفصيلاً وراء تفصيل، نثرة فوق نثرة، فالواضح أن ما يفتن الروائي هو هذا البناء.
إنّه يبسط من دفق دقائقه وجزئياته مناطق وفصولاً عارمة، ليس فقط باللمسات والأوصاف المتداخلة، بل يضيف إلى ذلك ملاحظات ومفارقات وأفكاراً، هي في جملتها سريعة لماحة. من الواضح أنّ رواية صهيب أيوب التي تدور في عائلة من ثلاثة أجيال وأمكنة، تنتقل من الخيام إلى المصحات النفسية، ومن المواطن الأولى إلى المنافي والمآوي والملاجئ.
مساحات وملاحظات وأشياء وجزئيات تطمح إلى بناء واقع سفلي
صهيب أيوب يريد من الرواية أن تنتشر في هذا المحيط الواسع المتلاحق، أن تنقل ما يبدو حياً وعائلة وزمراً متعددةً متنوعة. فالرواية مليئة بالحوادث الصغيرة امتلاءها بالصغائر والدقائق والتفاصيل، وفيها جو وعوالم متواصلة في مكانها وزمنها، منتشرة في مسارها ومحطاتها ودوائرها. الرواية هنا هي في الأكثر هذه المساحات من ملاحظات وأشياء وجزئيات. إنها هذا الطموح لبناء واقع سفلي، إلى حد كبير.
هنا نقع على مجتمع في الحضيض، لكن الواقع بحسب الرواية لا يكون إلا حضيضاً، هذا الحضيض يكاد يشمل كل شيء، إنه هكذا في الاقتصاد وفي العلاقات وفي الجنس والدونية الأخلاقية والاجتماعية، وفي الأخلاق والأعراف. نحن هنا أمام هذا المجتمع السفلي وليس هذا في تصرفاته فحسب، بل هو أيضاً في كلامه ولغته، حيث البذاءة حاضرة على الدوام، والبذاءة ليست فقط في الحديث والكلام، بل هي أيضاً في السلوك. إذ يمكننا القول هنا إننا أمام واقعية مفرطة، واقعية لا تحتكم إلا إلى غرائز ونوازع مظلمة وعارية ومتنصلة من أي ميزان، أو معيار أو قيم.
الرواية، مع ذلك، هي قبل كل شيء، رواية هذه المطالب والفرضيات والصور الدنيا. لا يهم صهيب أن يدخل في تحليل من أي نوع، أو أن يحاكم شخصياته أو أحداث روايته، أو أن يتابع مساراً درامياً تتفاعل فيه الشخصيات وتنمو الحوادث، وتصل إلى نهايات ونتائج. ليس هذا السبر النفسي والواقعي غرض الكاتب. لقد قتل حسن جدته، لكن هذا الحادث هو تقريباً بلا مقدمات، وليس له سوابق. فحسن ليس مجرماً، وشمسة ليست لصة، مع ذلك يقتل حسن جدته، وتهرب شمسة من بيت زوجها حاملة معها كنزاً، لا بد أنه، بذهبه، مُختلس من زوجها. إنها تهجر بيتها، ومعها ولدان، إياد وجلنار، لكن حادثاً كهذا لا تترتب عنه أي نتائج من أي نوع.
لا نعرف ماذا فعل الزوج بعد هروب زوجته، لقد انقطع الخبر هنا. لا نعرف لماذا قتل حسن شمسة جدته، أمر كهذا يمضي كأنّه لم يحدث. ثم إننا لا نعرف بدقّة أصل شمسة. هناك إشارات إلى البدو والخيام، لكنّنا مع ذلك نخلط الأصل البدوي بآخر غجري، ليس التحقق من ذلك، أو البناء عليه، ما يهتم به صهيب. إنه يكتب رواية بما يشبه الرسم، وفي الحقيقة بما يقترب من أدب عارٍ يبدو رغم صراحته الفجة، قريباً من الشعر. الرواية هي عمل على اللغة، إلى درجة تبدو فيه هذه في انكشافها وعريّها وتحتيتها، غرض الرواية. نستطيع أن نقول لذلك عنها إنها أدب سافر، أدب قوته في جسارته وسفليّته.
* شاعر وروائي من لبنان

Related News




