قصر الرئاسة والسيادة الوطنية
Arab
4 days ago
share

سؤال الساعة السودانية لا يتعلّق بإطفاء نار الحرب، إنما بالمعافاة من جراحها. ألسنة الحرائق لن تسكتْ (تلك ليست القضية)، إذ يعايشها الشعب طويلاً. لكنّما الخروج من تحت الأنقاض يشكّل مهمّةً عسيرة. في أفضل التصورات تفاؤلاً؛ الدولة تعبر من حرب شرسةٍ فُرضت على الشعب قسراً، إلى حروبٍ أشدّ ضراوةً في ميادين متعدّدة. تظلّ معارك الاقتتال تتشظّى في جبهات متناثرة. المسألة المركزية تظلّ تشبّث الأيادي المسؤولة عن عملية الحرب بعملية صناعة الانتقال، فهذه عقدة الأزمات، إذ كيف لمن أقحم الشعب في لظى الجحيم أن يُبشّره برفاهية النعيم؟ فمن يتباهى بتحقيق انتصار (التحرير) اليوم هو نفسه من أوزار السقوط تحت الاحتلال. هذه ليست عقبةَ أداءٍ أمام إنجاز سلس فقط، بل زيت على معاناة لن تخمد وشيكاً. أسوأ من ذلك، تمثّل مرحلة العبور بيئةً لإعادة تفريخ كلّ طيور الظلام، تجّار الأزمة بالإضافة إلى أثرياء الحرب.

يشكّل دخول الجيش وحلفائه قصر الرئاسة في الخرطوم (بغضّ النظر عن حجم كلفته) فاصلاً عسكرياً في مسار الحرب. لكنّه لا يعني نهاية الكارثة الوطنية. تضخيم دلالاته السياسية محاججةٌ إعلامية لا تصمد أمام المنطق. فالقصر ظلّ في قبضة المليشيا منذ بداية الحرب، لكنّه لم يُكسبها شرعيةً أو يضيف إليها ثقلاً سياسياً. إبّان الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية تتعرّض قصور الرئاسة إلى الهجوم والاحتلال من أجل كسر شوكة الأنظمة وتهشيم هيبة السلطة أولاً، قبل تكريس سلطان القوى المضادة، فقصور الرئاسة هي عُشّ السلطة أو وكرها (حسب طُهر النظام أو ظلمه). عندما تزحف جماهير الثورات الشعبية نحو مقارّ الرئاسة فإنما تستهدف اقتلاع رأس النظام من دون المساس بالسيادة الوطنية.

هناك مقارٌّ المساس بها (دع عنك الاعتداء عليها) تعدٍّ جارحٌ على السيادة والكرامة الوطنية، من ذلك السيطرة على مقرّ الإذاعة المسموعة والمرئية. منذ بداية الحرب، شهدنا كيف قطعت المليشيا لسان النظام الانقلابي حينما استولت على مقرّ الإذاعة والتلفزيون. هكذا تحوّلت الدولة كائناً أخرس غير قادر على بثّ أحاديث رأس النظام ومعاونيه، بل فقد لسانُ الدولة الرسمي القدرة على النطق بحال سيّدته. هذه جريمةٌ لم تكن اعتداءً على السيادة أو الكرامة، بل بلغت حدّ إهانة الأمّة. مع ذلك، لم تحفل الأصوات المهلّلة بانتصار القصر، كما باسترداد مقرّ الإذاعة. كلاهما طللٌ على طلل.

إبّان الحروب الأهلية والانقلابات العسكرية تتعرّض قصور الرئاسة إلى الهجوم والاحتلال من أجل كسر شوكة الأنظمة وتهشيم هيبة السلطة

إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، تعرّض قصر بعبدا (مقرّ رئيس الجمهورية) للقصف مرّات عدة. اضطرّ سليمان فرنجية لإخلائه بعد تدمير أجزاء منه. إلياس سركيس شيّد ملجأً تحت الأرض، غير أن القصر تعرّض لتدمير كبير في حرب ميشال عون مع الجيش السوري، فأعاد إلياس الهراوي ترميمه مجدّداً. تأثّرت السيادة اللبنانية بقوىً ناعمةٍ أكثر ممّا تضرّر قصر الرئاسة بالقصف. خرج علي عبد الله صالح بمقرّ الرئاسة اليمنية من زحام صنعاء إلى سفح النهدين هرباً من تهديدات محتملة حيث ابتنى مجمّعاً حصيناً في العام 1988. مع ذلك، استهدفته مليشيا الحوثيين (وكبارَ معاونيه) بتفجير داخل مسجد المجمّع في 2011، ثمّ أحكمت المليشيا قبضتها على المجمّع في 2015، في معركتها مع عبد ربه منصور. ذلك (وهذا) ضمن فصول الصراع على السلطة في اليمن، لا على السيادة. حتى عندما قصفت طائراتٌ أميركية مجمّعاً سكنياً لمعمّر القذّافي في إبريل/ نيسان 1986، لعلّ تلك الغارة الجوية جاءت حملةً تأديبيةً للزعيم الليبي دونما استهداف السيادة الليبية. فالغارة جاءت ثأراً لأميركيين قتلوا في ملهىً ليلي في برلين.

مرحلة إعادة البناء والإعمار، عقب سكون هذه الحرب المدمّرة، تعيد حتماً فساد الإنقاذ لا محالة. هذه بيئة الوالغين في المال العام، على نحو أشدّ شراسةً. تتناسل عصابات احتكار السلع الأساسية، المتاجرون بالغذاء والدواء، زبانية السوق السوداء وسوق المناولة، السوق الموازية وسوق السلاح، وسوق البشر. كما ينشط رجال الأعمال المتنفّذون، ورجال الدين ووجهاء العشائر. كذلك، يبرز هذه المرّة المتكسّبون بالابتزاز السياسي والمال السياسي. لكن أخطر من أولئك قادة المليشيات، أدعياء أبوّة "النصر"، فهولاء حذقوا مهارات الاستثمار في أزمات الشعب. هؤلاء هم أثرياء الحرب ورثة "التحالف التقليدي بين السوق والأمن". هؤلاء مليشيات مرحلة الانتقال المأمولة.

ليس السودان استثناءً في هجرة رؤوس المال أو تهجيرها. لدينا نخب عشوائية غارقة في فساد الاستثمارات، من وراء الشعب ذهبت برساميلها إلى الخارج. هناك أسماء معروفة متداولة في بورصة الفساد. لكن يوجد آلوف المنتفعين بهذا الفساد المحموم خارج شبكات الرصد الرسمي، والشعبي. لا سارق أو مهرّب متهرّب من الحساب يحاول استعادة ما نهبه للاستثمار في الداخل مجدّداً. لذلك، كما خسرنا ثروات من قبل سنكسب أثرياء جدداً. لن يهدّد هؤلاء عملية النهوض من تحت الأنقاض، فقط، بل ربّما السيادة الوطنية كذلك. العالم يشهد موجة محاكاة لدول أمست ملاذات آمنة لرؤوس الأموال الواجفة الهاربة من أوطانها.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows