
عندما نقل لنا الكبار قصصاً موجعة عن إعدام رجال وشباب خلال حروب ومجازر مرّت بالشعب الفلسطيني، خصوصاً في غزّة، لم نكن نعلم أننا سنشهد مثلها، بل أشد منها وجعاً في يومنا هذا. وبعد أن مرّ بنا العمر، ولم نعد أطفالاً يعتقدون أن قصص الكبار مجرّد حكاياتٍ من تاريخ غابر، كنا نظن أنها إن حدثت مرّة لن تتكرّر، لأن التاريخ سيعدّها نقطة سوداء على جبين الإنسانية. لكن الحقيقة أنها تتكرّر في كل مكان طالما هناك وحشية بشرية يُقابلها ضعف إنساني.
وعليه، يمكنك أن تستنتج أن اللجوء إلى أسلوب ما يُعرف بالإعدامات الميدانية هو سمة المرضى النفسيين المستغلين للعُزَّل، الذين يرهبون السلاح في أيدي الجبناء. هؤلاء، لو نازلوهم ندّاً لند، لكانت الغلبة للرجال والشباب الأشداء الذين ربّتهم أرض بلادهم من خيرها وشمسها، وجاء الغاصب لينازعهم فيها.
سمعتُ قصصاً وحوادث مؤلمة كثيرة عن الإعدامات الميدانية، وسرح خيالي كثيراً برواية أمّي عن إعدام شقيق أبيها أمام ناظري طفله، الذي اختبأ خلف أكياسٍ ضخمةٍ من علف الدّواب، وفقد النطق أياماً طويلة، بعد أن رأى بعينيه تصفية أبيه بدم بارد. كان الأب برفقة مجموعة من شباب مدينة خانيونس، ومعهم صديقه وجاره المقرّب. تحوّل الطفل الصغير إلى إنسان مذعور يعاني الكوابيس، وكانت أمّه تعلّق التمائم في عنقه، لعلّه يتوقّف عن الفزع في أثناء نومه، وعن الصراخ الذي يشقّ سكون الليل.
تكاد أمّي تقسم أن الكوابيس ظلّت تلاحق ابن عمّها حتى أصبح رجلاً وأباً، وقد تزوّج من ابنة صديق والده الذي أُعدم مع أبيه في اللحظة نفسها، وكأن المصيبة الواحدة تجمع الضعفاء مدى الحياة. أما الرواية الأخرى، فهي إعدام ابن شيخ المدينة وإمام مسجدها الكبير، الذي كان ابنه الوحيد، وقد مات والدُه قهراً بعد إعدامه بأيام، تاركاً ثلاث شقيقات صغيرات، إحداهن كفيفة.
لم تخلُ روايات أبي أيضاً من بعض "الفانتازيا" عن الإعدامات الميدانية التي نُفّذت في خانيونس، خصوصاً المذبحة الشهيرة عام 1956، رغم أنه كان طفلاً. من بين الروايات التي ذكرها قصة القطعة النقدية التي كانت في جيب أحد الشباب وحمت صدره من رصاصةٍ قاتلة، أو العطب المفاجئ الذي أصاب بندقية الجندي الحاقد وتكراره عدّة مرات، كلما حان دور هذا الشاب في الإعدام. وحين توقّف الرصاص عنده أكثر من مرّة، صرخ به الضابط غاضباً: "اذهب إلى أمّك... أنت لا تريد أن تموت".
إن كان لروايات الإعدام الميداني أن تُوثَّق، فهي اليوم تُوثَّق بألسنة أقرب الناس إلينا، وليس على ألسنة الغرباء كما كان يحدُث سابقاً. وهذا يدلّ على عِظَم المصيبة التي حلّت بأهل غزّة، إذ شهدت مدينة رفح تحديداً أكبر جريمة من الإعدامات الميدانية، حيث رأى الآباء والأمهات أبناءهم يُقتلون أمامهم. هناك ذلك الأب الذي رأيناه يبكي، حيث روى في شهادته أنه لم يستطع التوقّف لالتقاط جثّة ابنه، لأن الأوامر كانت تصل إليه بمواصلة النزوح من الأحياء التي أُمِروا بإخلائها، تحت وقع الرصاص وقذائف الدبابات. ومثل كثيرين، اضطرّ إلى ترك أولاده على الأرض جثثاً مضرّجين بالدماء، في أكبر جريمةٍ يندى لها جبين البشرية، ويعجز اللسان عن وصفها.
تُضاف جرائم الإعدامات الميدانية في رفح أخيراً إلى جرائم كثيرة سُجّل بعضها وتم توثيقه منذ بداية المجزرة في غزّة. وقد وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان عشرات الحوادث لجرائم الإعدام الميداني، في ظلّ صمت العالم، مؤكّداً أن هذه الجرائم تحدث أمام تلكؤ المنظومة الدولية عن اتخاذ قراراتٍ حاسمة تجاهها، ما يجعلها شريكة فيها، ويعكس تجاهلاً صادماً لحياة الإنسان الغزّي، الذي يموت بألف طريقة كل يوم، وأبشعها أن يموت أمام أعين أبيه وأمه.

Related News

