Arab
طوال أكثر من 35 عاماً، أي منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى في فلسطين، لم يتوقّف حديث كثير من الحكومات الغربية والإقليمية عمّا سُمّي "حلّ الدولتَيْن"، وكانت بعض الدول أكثر تحديداً حين تحدّثت عن إقامة دولة فلسطينية مستقلّة. وقد قُدِّم هذا الحل وسطاً، بديلاً من الشعار الفلسطيني الذي تبنّته منظمة التحرير، إقامة دولة ديمقراطية يتساوى فيها الجميع على أرض فلسطين التاريخية، وبديلاً من المشروع الصهيوني القائم على الاستيلاء على كامل فلسطين التاريخية لصالح إسرائيل. ورغم توقيع اتفاق أوسلو (1993)، الذي قُصد منه وقف الانتفاضة الأولى التي غيّرت ميزان القوى، جرت عمليتان متوازيتان ومتناقضتان: إذ تبنّت منظّمة التحرير فكرة الدولة المستقلّة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، بما فيها القدس، أي على 22% من أرض فلسطين التاريخية، رغم أن قرار الأمم المتحدة 181 منح الفلسطينيين 44% من تلك الأرض. وفي المقابل، استمرّت إسرائيل، بحكوماتها المختلفة، في عملية توسيع الاستيطان وضمّ ما تبقّى من فلسطين وتهويده، أي ما سُمّي "الأراضي المحتلة": الضفة الغربية وقطاع غزّة. ولم تختلف الحكومات الصهيونية، بيمينها ويسارها، في استكمال المشروع الصهيوني، ولا في التخلّي عمّا سُمّي الحلّ الوسط بعد خداع العالم والفلسطينيين بإمكانية حدوثه، وهو خداع بلغ ذروته في اتفاق أوسلو.
تبنّت منظّمة التحرير فكرة الدولة المستقلّة على 22% من أرض فلسطين التاريخية، رغم أن القرار 181 منح الفلسطينيين 44% من تلك الأرض
عندما وُقِّع اتفاق أوسلو كان عدد المستعمرين/ المستوطنين في الضفة والقطاع 121 ألفاً، ويتجاوز عددهم اليوم 800 ألف، في 500 مستعمرة وبؤرة استيطانية. لقد خُدع الجانب الفلسطيني بفكرة الحلّ الوسط، واستخدمته الحركة الصهيونية لاستكمال مشروعها الأصلي الذي بدأ قبل أكثر من قرن بتنفيذ "استعمار استيطاني إحلالي" لفلسطين. فما الذي فعلته الدول الغربية وغير الغربية إزاء التنمّر الإسرائيلي والتنكّر لفكرة الحلّ الوسط؟ إصدار البيانات، وأحياناً الاستنكارات، لا أكثر ولا أقلّ. وحتى عندما تجرّأ الرئيس الأميركي باراك أوباما وسمح بصدور قرار من مجلس الأمن بوقف الاستيطان الإسرائيلي وإدانته، لم يؤدِّ ذلك إلى أيّ إجراءات عقابية ضدّ إسرائيل.
أكثر من ذلك، استُخدم شعار "حلّ الدولتَيْن" لتقديم غطاء لما تقوم به إسرائيل من فرضٍ للأمر الواقع، وتدميرٍ منهجي مثابر لإمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلّة. واستُعمل لتقليص هدف "الدولة الفلسطينية المستقلّة ذات السيادة" إلى نماذج لكيانات هزيلة لا سيادة لها، ولا تملك من صفة الدولة سوى الاسم. فابتُدعت فكرة "الدولة ذات الحدود المؤقّتة" كي يُسمح لإسرائيل بضمّ ما أنشأته من مستعمرات استيطانية وغالبية أراضي الضفة الغربية. ثم جاء ترامب بفكرة صفقة القرن، التي حوّلت فكرة الدولة المستقلة إلى مجموعة من الكانتونات والمعازل عديمة السيادة، لتشريع ضمّ المستعمرات الاستيطانية. وخلال ذلك المخاض تفنّن دبلوماسيون غربيون كثيرون في ابتداع فكرة "تبادل الأراضي" لمنح الشرعية للمستعمرات الاستيطانية بدل المطالبة بإزالتها.
وبعد سيطرة الليكود والفاشية الإسرائيلية على الحكم في إسرائيل، لم تعد الحركة الصهيونية بحاجة إلى ذرائع أو حتى إلى غطاء، وغدت السياسة والقوانين الإسرائيلية صريحةً تماماً: لا مكان لأيّ دولة فلسطينية، وحقّ تقرير المصير على أرض فلسطين التاريخية بكاملها لليهود فقط، بحسب "قانون القومية" الإسرائيلي. وبدل أن تُعاقَب إسرائيل على جرائمها ضدّ القانونين الدولي والإنساني الدولي، وقرارات محكمتَي الجنايات والعدل الدوليَّتَيْن، عوقب الفلسطينيون. وكلّما حاولوا التمرّد على الظلم الذي يتعرّضون له، وعلى خرق إسرائيل "اتفاقات السلام"، كما جرى في الانتفاضة الثانية (2000 - 2005)، تعرّضوا للعقاب، ليس من الاحتلال الإسرائيلي فقط، بل ومن حكومات عديدة موالية لإسرائيل، تدّعي الحرص على القانون الدولي.
ومع استمرار الحديث المُكرَّر عن شعار "حلّ الدولتَيْن"، أنشأت إسرائيل حلّها الخاص: التدمير الشامل لقطاع غزّة، والضمّ والتهويد الفعلي للضفة الغربية، وتكريس نظام الأبارتهايد العنصري الأسوأ في التاريخ البشري، حلّاً مؤقتاً للوجود الديمغرافي الفلسطيني، وحتى تتاح لإسرائيل فرصة التطهير العرقي الكامل للشعب الفلسطيني. وصار واضحاً أن كل من يتحدّث عن "حلّ الدولتَيْن" ويتشدّق بفكرة "الدولة الفلسطينية"، من دون أن يفرض عقوبات على إسرائيل لإجبارها على وقف الاستيطان، ومن دون أن يطالب بتفكيك كامل المستعمرات الاستيطانية في الأراضي المحتلّة، إنما يمارس النفاق ويواصل منح الغطاء لـ"مشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي".
لا يوجد سوى بديل واحد: الدولة الديمقراطية الواحدة على جميع فلسطين التاريخية؛ دولة يتساوى فيها الجميع
ورغم الوضوح التام لجرائم الاستيطان وما أفرزته من عصابات إرهابية تمارس الإرهاب المفضوح ضدّ القرى والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية، تواصل حكوماتٌ عديدة تجاهل مطالب شعوبها بفرض عقوبات على إسرائيل، وتواصل الضغوط والعقوبات على الضحية، أي الجانب الفلسطيني، بدل أن تضغط على الجلّاد. وذلك ما يفسّر هذه الضغوط كلّها على السلطة الفلسطينية للمسّ بحقوق وكرامة الأسرى والأسيرات والجرحى وعائلات الشهداء، والضغوط لتغيير المناهج الفلسطينية بادّعاء احتوائها على التحريض، في حين تتجاهل تلك الضغوط التطرّف العنصري والتحريض الذي يملأ المناهج الإسرائيلية.
وأخيراً، الضغوط الخطيرة للمسّ بحرية الرأي والتعبير والمعتقد، بفرض شروط على كل من يترشّح لأيّ انتخابات فلسطينية محلية أو برلمانية أو رئاسية، للالتزام باتفاقات مزّقتها إسرائيل وألقت بها في سلّة المهملات. لا يجوز لأحد الخضوع للنفاق الذي يُمارس ضدّ الشعب الفلسطيني، أو الرضوخ لإملاءات أطراف دولية لا تتجرّأ على الوقوف في وجه خروق إسرائيل الفاضحة، بل تواصل تزويدها بالأسلحة التي تُستخدم في حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، ليس في قطاع غزّة فقط، بل في الضفة الغربية أيضاً.
لا يوجد سوى بديل واحد إذا نجحت إسرائيل (بسبب التواطؤ والنفاق الدولي) في القضاء على فكرة الدولة المستقلّة: الدولة الديمقراطية الواحدة على جميع فلسطين التاريخية؛ دولة يتساوى فيها الجميع، ويزال منها نهج الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. لن يؤدّي تكريس نظام الأبارتهايد إلا إلى مقاومته. أمّا محاولات التطهير العرقي فلن ترى النور ما دام هناك شعب فلسطيني حيّ صامد في أرض وطنه، مؤمن بقضيّته، وواعٍ لما يُحاك ضدّه من مؤامرات تصفية، بما في ذلك التطبيع على حساب القضية الفلسطينية.

Related News
قوات فصل روسية في جنوب سورية
alaraby ALjadeed
45 minutes ago