الذاكرة المقتولة
Arab
2 hours ago
share
يُقام في المناسبات لقاءٌ مشهود، يُحفظ تاريخه على مرّ الأيام في ألواح النضال السياسي، فيكون فرصةً سانحةً جديدةً للاستذكار بنوعٍ من النوستالجيا الأسِفة، وقد يكون بدوافع أخرى لاستنهاض همم المناضلين الخاملين أو المتعبين أو اليائسين. وعادةً ما تتحوّل المناسبة أيضاً (رغم الفارق الجوهري) إلى ما يشبه أيّ تأبينٍ لاحق، يُقال فيه، بأصوات جديدة وعلى مسافة، ما قيل سابقاً على لسان أصوات قديمة حضوراً. وممّا يثير الانتباه، أن كثيراً من المعارضين السياسيين، الذين أعيتهم سنوات النضال في أكثر من دولة مغاربية، يغتنمونها فرصةً للكلام عن الحدث المؤلم بما لا يخفى على ملاحظٍ من أساليب التحايل وعواطف الخوف، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بتوجيه الاتهام إلى حاكم، أو إلى جهاز، أو إلى سياق سياسي وأيديولوجي إن كان من المنطقي أن يُصاغ اتهامٌ ضدّه. ومعروفٌ أن الساحة المغاربية (ومثلها ساحات عربية) عرفت حوادث قتل كثيرة مُدبَّرة أودت بحيوات مناضلين سياسيين، فجاءت السنوات التالية وطمرت، بكثير من الإمعان والحثّ على النسيان، ما كان لهم في الحياة الدنيا السياسية من أعمال ومواقف وممارسات مشهودة. فذاقوا، في أزمنتهم القاسية، كل صنوف العنت والقمع. وما ذلك إلا لأن العقلية السياسية المركزية، المبنية على التصوّرات المطلقة للعمل السياسي وللأفراد وللتطوّر التاريخي نفسه، تصرّفت (في ضوء ما يمكن تسميتها استراتيجية التصفية السياسية والقتل العمد) تصرّفاً تآمرياً مبنياً على الشبهة وسبك القرائن التبريرية لصوغ التهمة الجاهزة: تهمة الخيانة الوطنية، المقبولة تلقائياً، عن حسن نية، من العموم، من دون حاجة إلى أيّ قرينة، كيفما كانت. لم تعد الدولة الاستبدادية مهدّدةً بالديمقراطية إلا في الحدّ الأدنى، ولم يعد للمعارضة الموقع الكلاسيكي نفسه، الذي تدرّبت فيه على النضال لا أشير، في هذا السياق، إلى المهدي بن بركة المغربي، ولا إلى صالح بن يوسف التونسي، ولا إلى عمر المحيشي الليبي، أو كريم بلقاسم الجزائري الذي ارتفعت روحه بطريقة القتل العابر للدول؛ فهؤلاء جميعاً ليسوا إلا الرؤوس المعروفة التي قُتلتْ بطريقة محبوكة وباستهدافٍ مؤكّد. لأن هناك عشرات ممّن لم يتركوا خلفهم أيَّ أثر، ولا كانت السلطة، التي أعدمتْ وجودهم، في حاجة إلى تبرير علني لتشرح سبب الإجهاز عليهم أصلاً. أستخلص من هذا أن الأجيال الجديدة، التي لم تعرف عن تاريخ الاستقلال إلا سنته، ولا تعرف يومه بالضبط، هي تلك التي لم يعد يعنيها في شيء (في ما يبدو) أن يكون تاريخ الاغتيالات السياسية، لمن يذكره، على صلة بالنضال السياسي، أو له اتصال بالسياسات القمعية المنتهجة لإسكات المعارضين، أو بغير ذلك ممّا قد تكون العهود الاستقلالية رخّصت له من صراعاتٍ ومصالح متناقضة وأساليب متفاوتة في الصراع، عندما تحوّل التناقض إلى صفوف قواها المجتمعة المتوثبة، فتبارزت (من خلال القوة والعنف) على الفوز والانفراد بالسلطة الفعلية. علمًا أن المعرفة من عدمها، في علاقة بالذاكرة التاريخية على الأقلّ، لا يمكن أن يشملهما التقادم، وإن كان هذا غالباً ما يبلي الوقائع ويُذهب جدواها شذراً. حقيقة الموقف أن هناك ضرباً من السياسات المُفكَّر فيها، تلك التي تبلورها النُّظم السائدة لغايات مختلفة، يُراد بها محو التاريخ الموازي للأفكار وللممارسات التي نشأت، منذ حُقبٍ بعيدة، في كنف التوجّهات الوطنية والتقدّمية واليسارية التي ارتبط وجودها بالنهوض القومي منذ خمسينيّات القرن الماضي. والمفارقة، انطلاقاً من ذلك، شاخصة على الوجه التالي: الدولة المُستبِدّة، التي بيدها القرار السياسي والعسكري والاقتصادي كذلك، أي إنها تتحكّم في الجيش وتستخدمه للأغراض التي تقرّرها عند الاقتضاء. كذلك فإن لها من "الصلاحيات الدستورية" ما يمكّنها من إبطال فعّالية المجال السياسي كُلّاً أو جزءاً، فضلاً عن قدرتها على استيعاب المطامح الشعبية من خلال القضاء على أطر العمل السياسي (وغير السياسي) التي تعارض اختياراتها، إلى جانب ما تجنيه من مصالح اقتصادية في إطار التبعية والعولمة. أمّا ما تضعه لذلك من مؤسّسات شكلية، أو ذات طبيعة تمثيلية مفترضة، فهي تصفها للحاجة بـ"الديمقراطية" وتُضفي عليها صفة "الحَكامة" حصراً لمداهنة مراكز القرار الدولية والأممية، لا لشيء إلا لضمان الاستقرار والفوز بالشرعية بوصفهما مقوِّمَيْن ضروريَّيْن لديمومة الاستغلال والاستبداد، المسنودَيْن أحياناً بتبريرات دينية بحكم الطابع الإسلامي للدولة. الوجه الآخر للمفارقة أن الدولة المُستبِدّة، في مواجهة المعارضة السياسية (الثورية والعسكرية كذلك)، لا يمكن أن تسود من دون "شرعية مضمونة مسبقاً"، أساسها ترسانة من القوانين المُنظِّمة للحياة المجتمعية، يكون مبعث أحكامها الزجر المبني على الشمولية. ومن أهم ما "ابتدعه" الاستبداد للتخلّص من المطلب الديمقراطي (المرفوع في وجهه باسم هذه المعارضة) أنه يشرّع مبدئياً، وشرطه هو الموالاة لـ"شرعيته"، لنموذجٍ مفترض يجب أن يكون في أساس التطوّر المجتمعي برمّته قصد ضبطه وسهولة التحكّم فيه. النموذج هو مثال الشيء يُقتدى به ويُعمل عليه، وهو البنية التنظيمية للدولة عندما يتحوّل الاهتمام بوجودها الموضوعي (هو القوة دائماً) إلى أيديولوجية وطنية تُجوّز المركزية والقوة العسكرية والسبق التاريخي وأهمية الدين في التأطير والضبط الأمني. ولذلك يمكن القول إن التبرير الأيديولوجي المباشر للنموذج هو الوحدة الوطنية، وهو المفهوم المتعدّد للسيادة بمعنى الحقّ والقدرة والتطبيق. وأضيف إليه (موضوع مزمن في المنطقة المغاربية) مشكلة الحدود المُدمجة في السيادة، لاقتناعي بأن الدولة المغاربية، بصرف النظر عن أنظمتها السياسية، لم تعِ حدودها الجغرافية إلا من خلال التقطيع الاستعماري الذي فصّله في ضوء مصالحه. المشكلة في هذه المفارقة أنها أصبحت "أبديةً"، لأن طرفيها (الدولة المُستبِدّة والمُعارَضة المُفكَّكة) يعانيان أزمات متفاوتة الخطورة بالنسبة إلى تطوّرهما ومستقبلهما. تمارس الدولة المُستبِدّة وتتصرّف بما تستخدمه من قوة وفعل، بما في ذلك الاحتواء والتلاعب، إلى جانب تحكّمها الشامل في الخيرات الوطنية، من خلال تملّكها بالقوة ثلاث وظائف على الأقلّ: المركزية المطلقة للسلطة، إلغاء الحريات العامّة، وقمع المُعارَضات المختلفة. بينما نجد المُعارَضة السياسية، في الطرف الآخر من المفارقة، محجوزةً في أطر ضيّقةٍ تقيّد حرية حركتها في المجال العام، وفي المؤسّسات المهنية أو التمثيلية إن كانت موجودة. ولا نعثر لها في الشارع العام، حين تتجرّأ على النضال، على أيّ مظهر خاصٍّ من مظاهر الوجود والفعل، أي قوة مصمّمة على الإصلاح أو التغيير، كما يستوجب النضال الديمقراطي ويدعو المتحمّسين إلى الإيمان بجدواه. هناك ظروف أوجبت قوة الاستبداد، وظروف أخرى اعترضت نموّ قوة المُعارَضات المتنوعة. إلا أن ما يمكن ملاحظته، أن التطوّر العام في الزمن المغاربي تميّز، في العقود الماضية، بحسب ظروف وملابسات معيّنة، بالاستقواء الحادّ بالدولة، المتمثّل باستخدام مفهوم القوة المقرونة بالتشدّد القانوني الجنائي، للقول (المشفوع بالتهديد الصريح) بضرورة حماية المجتمع من التطرّف والانحراف، ومن منافسة الخصوم الداخليين والخارجيين، وسوى ذلك. قاعدة أصبح لها أنصارها من الداعين إلى بناء القوة الإقليمية النافذة، وشحذ فصول القانون الجنائي ومسطرته لكي تكون أقوى في الاتهام والزجر، وتعميم الوعي الأيديولوجي الإجرائي (Procedural ideological consciousness) بضرورة الخضوع والاستسلام لجميع الأقدار المملاة من فوق، باعتبارها أقداراً سلطوية لا يمكن الخروج عليها، وإلا عُدّ الخروج تحدياً، أو ثورةً، أو خيانة. الدولة المُستبِدّة تُلبس مؤسّساتها الشكلية أسماء "الديمقراطية" و"الحَكامة" لمداهنة الخارج لا لإصلاح الداخل كذلك تميّز الزمن نفسه، في علاقته بالمُعارَضات، المنظّمة المرتبطة بالأحزاب الوطنية التقليدية، أو بالجماعات الإسلاموية، أو بأقليات يسارية تتمسّك بالنموذج الكلاسيكي للثورة الاجتماعية المستحيلة من ناحية، وبالمعارضة التلقائية أو العفوية أو العابرة للشوارع في الداخل والخارج، تلك التي لا ترتبط (في الظاهر) بأيّ حزب سياسي معيّن، ولا تقول بأيّ أيديولوجية تعبوية معروفة أو متداولة، من ناحية ثانية، بما يمكن الاصطلاح على تسميته بالمُعارَضة الرقمية، أو بالنشاط الرقمي (الإنترنت، وسائل التواصل الاجتماعي، البريد الإلكتروني، الهواتف المحمولة للتعبئة وللعمل السياسي في سبيل التغيير...). وساحتها، خارج المؤسّسات إن كانت موجودةً من حيث الشكل، الشبكات الاجتماعية، بعيداً، على نحو ما، عن أي مطمح جماهيري يمكن أن يتجسّد في قضية معقولة. وواضح أن الخطاب التحريضي لهذا النوع من المُعارَضة يتغذّى أساساً على الطبيعة الاستبدادية للنظم القائمة، أو على الممارسات المجتمعية الناشئة عن مظاهر التخلف العام بسبب التهميش أو الفقر أو الاقتصاد غير المُهيكل... إلخ. إنها مرحلة طابعها الانقسام على الأداة والذات، فلم تعد الدولة الاستبدادية مهدّدةً بالديمقراطية إلا في الحدّ الأدنى، ولم يعد للمعارضة الموقع الكلاسيكي نفسه، الذي تدرّبت فيه على النضال. ومعناه أن المجال السياسي الذي تقوم فيه الدولة والمعارضة معاً أصبح عارياً، بلا وساطة ممكنة ولا ذاكرة مرجعية تحدّان من الانفلات أو من اليأس الذي يمكن أن يُصاب بهما المجتمع. وشأن هذا الوضع أن النضال الإصلاحي أو الثوري أصبح بلا جدوى ديمقراطية، لأنه استُنزف إلى حده الأقصى بأوهام التصوّرات البراغماتية التي تتغنّى بالتمثيلية أو بالشعبوية. وسيكون من الظلم، بناءً عليه، أن نعترف لمن يطالب بالديمقراطية البرلمانية، في إطار الدولة الاستبدادية الدينية، بالجرأة النضالية أو بالوعي النقدي. أمّا التأسّي على جرائم القتل السياسي، فليس له ذاكرة تسنده حتى يكون عبرة لمن يودّ الاعتبار بالذكرى.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows