أمادو الفادني وأساطير مملكة كوش
Arab
15 hours ago
share
يشتغل الفنان السوداني أمادو الفادني على مساحة وسطى بين الأسطورة والتاريخ، بين ما وصل إلينا مكتوباً وما بقي عالقاً في الحكايات الشفوية، وفي العلامات والرموز التي انتقلت عبر الأجيال من دون أسماء. هذا الاشتباك بين المعلن والمطمور ينعكس مباشرة في لغة الأعمال وطبيعتها في معرضه "كوش" المقام في غاليري كايرو بالقاهرة حتى الأول من يناير/ كانون الثاني المقبل، الذي يضم مجموعة من اللوحات المنفذة بالأكريليك على القماش، ويستدعي إرث مملكة كوش النوبية، إحدى أقدم الحضارات الأفريقية، لا بوصفها موضوعاً توثيقياً، بل باعتبارها منظومة رمزية وثقافية ما زالت آثارها كامنة في الوعي واللاوعي معاً. تطالعنا في المعرض أجساد سوداء مسطّحة، غالباً بلا ملامح واضحة، تتحرك داخل فضاءات لونية مفتوحة، تتجاور فيها درجات الأزرق مع الوردي والأصفر والأخضر، في بناء بصري لا يسعى إلى الإيهام بالعمق بقدر ما يرسّخ الإحساس بالطقس والاستدعاء. في عمله المعنون "امرأة كوشية" مثلاً، يحتل الجسد الأنثوي مركز اللوحة، جالساً في وضع أقرب إلى التأمل أو الترقّب. الجسد في هذه اللوحة داكن، شبه ظلي، تحيط به عناصر متفرقة، فثمة طائر طويل المنقار، وإشارات كتابية أقرب إلى التعاويذ، وأشكال هندسية، وتماثيل جانبية تستحضر أيقونات فرعونية وكوشية في آن. لا تبدو هذه العناصر شارحة أو تفسيرية، بل تعمل مثل طبقات دلالية، تفتح اللوحة على أكثر من مسار قراءة، حيث تتحول المرأة إلى وسيط بين العوالم، لا إلى موضوع للرؤية فقط. تعتمد الأعمال على اقتصاد في التفاصيل مقابل كثافة رمزية عالية الأنوثة، بوصفها رمزاً للحماية والخصوبة والمعرفة، تحضر بقوة في المعرض، ليس فقط عبر الأجساد، بل من خلال استدعاء الآلهة والرموز المقدسة المرتبطة بمملكة كوش. في لوحة أخرى مثل "إلهة الصحراء" تظهر الكتلة الحيوانية الأنثوية في هيئة هجينة، تجمع بين الإنسان والحيوان، في إحالة واضحة إلى الأساطير القديمة التي لم تفصل بين المقدس والطبيعي. هنا، لا يسعى الفنان إلى إعادة بناء الأسطورة، بل إلى استحضار مناخها، وترك أثرها يعمل داخل اللوحة. في المقابل، تحمل أعمال مثل "حرب" و"رحلة" بعداً أكثر توتراً. في "حرب" تتجاور الأجساد البشرية مع رموز السلطة والطقس، في تكوين يوحي بالصراع بوصفه حالة ممتدة، لا حدثاً عابراً. أما "الرحلة" فيقدّم ثلاث شخصيات داكنة تتحرك فوق مسار أزرق، أقرب إلى نهر أو قارب، في استعارة بصرية للهجرة، أو العبور، أو الانتقال القسري، وهي ثيمات لا تنفصل عن التاريخ السوداني الحديث، ولا عن تجربة الفنان الشخصية. أمادو الفادني، المولود في مصر لأسرة سودانية، نشأ بين فضاءين ثقافيين متداخلين، الشارع القاهري والبيت السوداني. هذا التداخل، بما يتضمّنه من تقاطعات وتوترات، شكّل وعيه الفني مبكراً، وترك أثره الواضح على أعماله. فالمعرض لا يتعامل مع الهوية باعتبارها معطى ثابتاً، بل سؤالاً مفتوحاً، يتشكل عبر الذاكرة، والسياسة، وما تمّ إقصاؤه أو تجاهله من السرديات الرسمية. قراءة نقدية لعلاقة التاريخ المكتوب بالقوى التي أنتجته من الناحية التشكيلية، تعتمد أعمال الفادني على اقتصاد في التفاصيل، مقابل كثافة رمزية عالية. الخطوط غالباً بسيطة، والأجساد مسطّحة، لكن العناصر المرسومة مشحونة دائماً بالإشارات، من حروف وأرقام، وطلاسم، ورموز، وطيور، وأدوات طقسية. هذه العناصر لا تنتظم في سرد خطي، بل تتناثر داخل اللوحة، بما يشبه الذاكرة نفسها، حيث تختلط الأزمنة، وتتجاور الطبقات دون ترتيب هرمي. كما يلفت الانتباه حضور اللون عنصراً بنيوياً، لا تزيينياً. الأزرق هنا، على سبيل المثال، يحضر بما هو فضاء شامل، قد يُقرأ بوصفه ماءً، أو سماءً، أو زمناً مفتوحاً، فيما يعمل الوردي والأصفر على كسر حدّة المشهد، وإدخال بعد شعوري لا يخلو من هشاشة. هذا الاستخدام للون يعزّز الطابع غير السردي للأعمال، ويمنحها قدرة على التأثير المباشر. في  بعض اللوحات الأخرى تتجاور شخصيات بشرية مع رموز معمارية وحيوانية، في تكوين يوحي بفكرة العبور بين عالمين، أو بين ضفتين كما في لوحة "برزخ". عنوان اللوحة نفسه، يعمّق هذا الإحساس، ويعيد ربطه بسؤال الهوية المعلّقة بين الجغرافيا والتاريخ. يلفت المعرض أيضاً الانتباه إلى الطريقة التي يوظف بها أمادو الفادني النصوص الدينية، لا بوصفها مرجعيات عقائدية، بل بكونها مصادر أعادت تشكيل صورة كوش وأفريقيا في المخيال التاريخي. الإشارات المستلهمة من العهد القديم، والتي تحضر في خلفية المشروع نصوصا مصاحبة للأعمال، تعمل هنا بما هي طبقة موازية، تكشف كيف كُتبت هذه الجغرافيا من خارجها، وكيف جرى اختزالها أحياناً في صورة غامضة أو أسطورية. يعيد الفنان في أعماله تفكيك تلك النصوص، ويضعها في مواجهة الذاكرة المحلية والأسطورة الشفوية. بهذا المعنى، لا تصبح النصوص القديمة سلطة تفسيرية، بل مادة يعاد تدويرها داخل العمل الفني، بما يتيح قراءة نقدية لعلاقة التاريخ المكتوب بالقوى التي أنتجته، وبالصور التي رسّخها عن "الآخر" الأفريقي، دون الوقوع في خطاب مباشر أو استدعاء وعظي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows