لبنان: السيادية الانتقائية وصفة فشل
Arab
6 days ago
share

منذ تشكيل الحكومة اللبنانية العتيدة برئاسة نوّاف سلام، يواظب وزير خارجية لبنان، يوسف رجي، المُفترض به أن يدافع عن مصالح الدولة اللبنانية في وجه إسرائيل، على تصريحات أقلّ ما يُقال عنها أنّها شبيهة بمَن يطلق النار على قدم البلد. فهو يدأب على الاعتراف زوراً لإسرائيل، باسم الدولة اللبنانية علنياً، بـ"الحق" في أن تتذرّع بعدم تسليم حزب الله لسلاحه شمال الليطاني لتستمرّ بانتهاكها سيادة الدولة اللبنانية، لا سيّما عبر احتلالها لنقاط معيّنة في الجنوب، وتماديها في القيام باعتداءاتٍ متكرّرة في لبنان.

جاءت تسمية رجي وزيراً للخارجية نتيجةً لإحدى أمهات المعارك التحاصصية أثناء تشكيل الحكومة (إلى جانب معركة فرض توزير ياسين جابر في المالية من الثنائي الشيعي)، وهي معركة خاضها حزب القوّات اللبنانية لانتزاع هذه الحقيبة من حصّة رئيس الجمهورية جوزاف عون.

تنم تصريحات الوزير القواتيّ عن عدم دراية بأبسط قواعد تفسير النصوص في القانون الدولي (والتفسير أبسط من التأويل)، إذ يبدو أنّ الوزير لا يملك المهارة القانونية الكافية لقراءة اتفاق وقف أعمال عدائية أو قرارات دولية، أو كي يجيد ولو بالحدّ الأدنى تقنيات التشبيك بينها، بل هو يعتمد على قراءةٍ سطحية خاطفة اختزالية لمقدّمة اتفاق وقف الأعمال العدائية حصراً، من دون العودة لباقي بنود هذا الاتفاق أو لبنود القرارات الدولية التي يُحيل عليها الاتفاق والتمعن بها، لا سيّما بما يتعلّق بشمال الليطاني.

ليس لدى وزير الخارجية اللبناني استراتيجية إلّا الخضوع للإملاءات ورمي المسؤولية على حزب الله

وهو أمر من شأنه أن يضعف موقف لبنان السيادي وأن يلحق ضرراً فادحاً به، ليس في وجه إسرائيل فحسب، التي تغتبط صحافتها بهذا الوزير (راجع مقال زڤي بارئيل في هآرتس بتاريخ 16 مارس/آذار 2025)، بل أيضاً في وجه حزب الله الذي يراهن غالباً على فشل الدولة اللبنانية في وقف الاعتداءاتِ الإسرائيلية وتحرير الأرض، من أجل تبرير بقاء سلاحه، وربما العودة يوماً ما لفتح الجبهة. وفي حال لم تجر معالجتها سريعاً، من المرجّح أن تؤدي قلّة كفاءة وزير الخارجية الحالي في هذا المجال إلى الفشل الذي يراهن عليه الحزب، فهي تضعف موقف لبنان، ومن الجلي أنّه ليس لدى وزير الخارجية استراتيجية إلّا الخضوع للإملاءات ورمي المسؤولية على حزب الله.

على أساس "الحكومة غير حزبية"، كما يُردّد من رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وإذ بالسياسة الخارجية للبنان يقودها وزير من المفترض أن يكون وزير خارجية دولة لبنان، في حين أنه يتصرّف رئيساً لجهاز العلاقات الخارجية في القوّات اللبنانية، مردّداً بما لا يخلو من الببغائية السياسية، وبعيداً عن منطق رجال الدولة ونسائها، خطاباً حزبياً خدمةً لمصالح فئوية، ولتصفية حسابات داخلية، ولو كان ذلك على حساب لبنان ودولته وسيادته. الشجاعة السيادية هي قول الحقّ بعدل وموضوعية ورزانة وأمانة علميتين، وليست الخطابات الشعبوية الطنانة الرنانة حول سيادية انتقائية، أو المزايدات الديماغوجية وشدّ العصب المُرافق لها، التي كلّها لا تُغني ولا تسمن من جوع، لا سيما أنها تشكّل تشويهاً للسيادية عبر إعادتها لزواريب الفئوية والتحزّب التي كان أخرجها منها خطاب 14 آذار السيادي الجامع والمتوازن. الانتقائية والنظر بعين واحدة هي غالباً أكثر ما يمكن أن يضرّ بالقضيّة السيادية اللبنانية.

الشجاعة السيادية هي قول الحق بعدل وموضوعية ورزانة وأمانة علميتَين، وليست الخطابات الشعبوية الطنانة الرنانة حول سيادية انتقائية

من المهم التذكير أنّ اتفاق وقف الأعمال العدائية لا يُعطي إسرائيل إطلاقاً أيّ حق، تحت أيّ حجّة كانت، بأن تُبقي قواتها في لبنان في نقاطٍ معينة بعد انتهاء مهلة الشهرين التي جرى تمديدها لفترة قد انتهت منذ 18 فبراير/شباط 2025، كما أنّه من واجب وزير خارجية لبنان أن يعمل على وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، لا سيّما أنّ أغلبها لا يمكن أن يندرج تحت أيّ نوع من أنواع "حق الدفاع عن النفس" الوارد ضمن وقف الأعمال العدائية، وذلك بدل أن يحاول الاستثمار في هذه الاعتداءات من أجل تصفية حساباته الداخلية، بكثير من الشعبوية الفئوية، مع حزب الله (الذي لا يقل شعبوية وفئوية عن القوات اللبنانية)، على حساب لبنان ودولته وسيادته.

فضلاً عمّا تقدّم، فإنّ القرار 1559 الذي يجري التذكير به والإحالة على مضمونه في مقدّمة اتفاق وقف الأعمال العدائية (تسليم السلاح شمال الليطاني أيضاً)، الذي لم يصدر خلال نزاع مسلّح قائم أو لوقفه (على عكس القرار 1701)، وضع لصالح سيادة الدولة اللبنانية، وهو يولي أمر تنفيذه لها وحدها، وليس لأيّ طرف خارجي، وخصوصاً ليس لدولة ينتهك جيشها سيادة لبنان، وهذا أمر منطقي قانونياً، لأنّ عكس ذلك يعني إفراغ القرار 1559 من كلّ روحيته ومبتغاه، ما من شأنه أن يحوّله إلى مجرّد إملاء لصالح اسرائيل التي ما زال جيشها ينتهك سيادة لبنان.

هذا وجاءت حادثة إطلاق الصواريخ في 22 مارس/آذار الحالي من جنوب لبنان بمزيد من تعرية زيف السيادية الانتقائية الفئوية لدى الأوساط السياسية (ومنها الحكومية) التي تصف نفسها بـ"السيادية"، التي تدافع عن رجي، التي تركّز اهتمامها حصرياً على السيادة بشقها الداخلي (أي ضدّ سلاح حزب الله)، وتهمل السيادة بشقها الخارجي لا سيما في وجه إسرائيل. فعلى إثر هذه الحادثة، ركّزت هذه الأوساط مُجمل خطابها على مسؤولية لبنان حصراً فيما يجري. قانونياً، صحيح أنّ لبنان يُسأل عن إطلاق صواريخ من أراضيه، لكن في المقابل، وهذا ما يغفله كثيرون في هذه الأوساط، للدفاع عن النفس (إن سلمنا جدلاً أنّ لإسرائيل هذا الحقّ في هذه الحالة) شرطان أساسيان: الضرورة والتناسب، في حين أنّ لا تناسب إطلاقاً فيما قامت به إسرائيل في معرض ردّها على إطلاق بضعة صواريخ عليها (على "خطورته")، وبذلك يتخطى الردّ بأشواط إطار الدفاع المشروع، ليشكل عدواناً على لبنان تُسأل عنه إسرائيل.

من واجب وزير خارجية لبنان أن يعمل على وقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة،  بدل أن يحاول الاستثمار في هذه الاعتداءات من أجل تصفية حساباته الداخلية

أما سياسياً، إذا كان الوزير رجي، ومن يلفون لفه، يعتقدون أنّ تهويلهم بالضغوط الكبيرة على لبنان لتسليم سلاح الحزب (ومنها الضغوط العسكرية والاحتلال الإسرائيلي)، سوف تجعل حزب الله يسلّم سلاحه (شمال الليطاني)، فيكونون عندها هواة في السياسة اللبنانية، ويكون عملياً لا مانع لديهم في بقاء الجيش الإسرائيلي في الجنوب واستمرار اعتداءاته، لأنّ القاصي والداني يعلم أنّ حزب الله، للأسف، لن يسلّم سلاحه شمال الليطاني قريباً. السياسة فن الواقع: على الدولة أن تتفادى الآن سياسة الحدّ الأقصى غير المجدية، وأن تتعاطى مع الواقع (لا سيّما الداخلي) بتدرُّج (سياسة الخطوة خطوة) كي تستطيع تحصيل حقوق لبنان واسترجاع سيادته بأفضل شروط ممكنة على ضوء هذا الواقع.

أما أكثر ما يؤسف، فهو صمتُ سنّة لبنان أمام كلّ ما يجري. السياسة ليست فقط مشاركة في انتخابات "كلو بوقتو حلو" (كما صرّح رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في خطابه الأخير في ذكرى اغتيال والده في ١٤ فبراير/شباط)، باعتبار الانتخابات بوابة للعودة للمشاركة بتقاسم قالب الحلوى، السياسة أولاً موقف في الفترات العصيبة والمفصلية في تاريخ البلد. وسكوت سنة لبنان، لا سيّما التيار الأكثر تمثيلاً لهم، أمام الوصاية الجديدة وإملاءاتها (لا سيّما الهيمنة الاسرائيلية) التي يجري فرضها على البلد بالحديد والنار، وبالتهديد والوعيد والابتزاز والعجرفة (تصريحات نائبة المبعوث الأميركي للشرق الاوسط مورغان أورتاغوس مثالاً)، وبالانبطاحية والاستكانة وعدم الكفاءة، وأحياناً بالتواطؤ المقصود أو غير المقصود من بعض المسؤولين اللبنانيين، السكوت عن كلّ ذلك عار تاريخي مرفوض، لا يشبه تاريخ سنة لبنان ولا ثوابتهم الوطنية، سيلاحقهم لسنوات إن لم يعالجوه سريعاً، ولن يشفع لهم في محوه أن ترضى عليهم هذه الدولة العربية التي يحاولون استرضاءها أو تلك. سنة لبنان كانوا دائما في الطليعة سياسياً في وجه العنجهية الإسرائيلية ضدّ لبنان، ومن غير المقبول أن يكونوا اليوم شهود زور بسكوتهم، أو أن يكتفوا بدور سياسي ثانوي في الوقوف سياسياً بوجه الغطرسة الإسرائيلية ضدّ البلد.

أعان الله لبنان.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows