كيف صاغت السلطة تاريخ عيد الميلاد في لندن؟
Arab
1 day ago
share
لم يكن عيد الميلاد في لندن دائماً موسماً للضوء. ففي شتاءٍ بعيد، تحوّلت طقوسه إلى إشارات سياسية والصمت إلى موقف حين اختارت المدينة أن تُطفئ العيد وتلغيه، لا لغياب الإيمان، بل خشية من خطورته على السلطة. وبين لندن التي منعت الميلاد يوماً، وتلك التي لم تعد قادرة على تخيّل شهر ديسمبر/ كانون الأول من دونه، تمتد سيرة مدينة خاضت صراعاً طويلاً على معنى العيد، قبل أن يفيض من الكنيسة إلى الشارع والسوق والذاكرة. من عيدٍ محظور إلى موسم لا يُفلت منه أحد في ديسمبر من كل عام، تتحوّل لندن إلى مدينة تتلألأ بالأضواء على مدار الساعة. تتدلى الزينة فوق الشوارع وتمتلئ المتاجر بالمتسوقين وتُعاد صياغة إيقاعات الحياة اليومية لتتماهى مع موسم واحد اسمه عيد الميلاد. يبدو المشهد اليوم طبيعياً، بل حتمياً. غير أن هذا العيد نفسه كان، في لحظة مفصلية من تاريخ المدينة، موضع شبهة، بل فعل عصيان سياسي. في خمسينيات القرن الـ17، وجدت لندن نفسها أمام تجربة غير مسبوقة في تاريخها السياسي، بعدما أُلغيت الملكية وتحولت إنكلترا إلى جمهورية تُعرف بـ"الكومنولث". في صدارة هذه المرحلة المفصلية برز أوليفر كرومويل من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في التاريخ البريطاني والقائد الذي قاد تحولاً جذرياً أنهى، ولو مؤقتاً، قروناً من الحكم الوراثي. لم يقتصر مشروعه على إعادة رسم بنية السلطة، بل امتد ليطاول المجتمع بأكمله، هادفاً إلى إعادة تشكيله أخلاقياً ودينياً وثقافياً وفق رؤية صارمة للدولة والإنسان معاً. تكشف وثائق حكومية محفوظة في الأرشيف الوطني البريطاني عن الكيفية التي نظر بها النظام الجديد إلى عيد الميلاد. ففي تقرير مؤرخ في 15 ديسمبر 1650، رفعه السير هنري ميلدماي إلى البرلمان، ورد أن مجلس الدولة تلقّى معلومات تفيد بفرض "التزام صارم باليوم المعروف باسم عيد الميلاد في مدينتي لندن وويستمنستر، من خلال إغلاق المحال بشكل عام واستخدام عبارات ازدراء دفاعاً عن ذلك". اللافت أنّ لغة التقرير لا تتحدث عن احتفال ديني بقدر ما تصفه بأنه تحدٍّ للسلطة. فبالنسبة للبيوريتانيين الذي شكّلوا المرجعية الفكرية للنظام الجمهوري، لم يكن عيد الميلاد طقساً مسيحياً أصيلاً، بل تقليداً موروثاً من الكنيسة الكاثوليكية، مرتبطاً باللهو والبذخ والانفلات الأخلاقي. هكذا صار منعه جزءاً من مشروع "تطهير المجتمع" الذي حملته المجموعة الدينية المتشدّدة في سعيها لضبط السلوك العام ومحاربة الطقوس والاحتفالات الشعبية عامةً بوصفها انحرافاً عن الإيمان الصحيح. "الأخلاق" سياسة دولة لم تكن هذه المقاربة الدينية منفصلة عن السياسة، فالجمهورية الوليدة كانت تعيش في ظلّ هواجس أمنية عميقة وخشية دائمة من عودة الملكية. تكشف مصادر الأرشيف الوطني عن فرض الأحكام العرفية في مناطق مختلفة وملاحقة أنصار النظام الملكي وتشديد الرقابة على الحياة العامة. في هذا السياق، تحوّلت الأخلاق إلى أداة حكم وأصبح ضبط السلوك اليومي وسيلة لضمان الاستقرار السياسي. وإلغاء عيد الميلاد لم يكن مجرد قرار عقائدي، بل رسالة سياسية مفادها أن الزمن الاجتماعي نفسه بات خاضعاً للسلطة الجديدة. وعلى الرغم من القبضة الصارمة، فإن الجمهورية لم تكن مطمئنة إلى بقائها. ففي المنفى، كان الملك تشارلز الثاني يدير بلاطاً كاملاً، يتابع أخبار الداخل بانتظار لحظة العودة. وتُظهر رسالة من أرشيف الدولة البريطاني، مؤرخة في يناير/ كانون الثاني 1657، حجم القلق الذي كان يخيّم على النظام الجمهوري، إذ تتحدث عن "مؤامرات وخيانات متكررة وعن عام من مؤامرات البارود، كادت أن تودي بالحامي في عربة من نار". تعكس هذه العبارة مناخاً سياسياً متوترً، كانت فيه الجمهورية محاصرة بالخوف من الاغتيال والانقلاب، رغم كل ما فرضته من انضباط أخلاقي وقانوني. سقوط الجمهورية وعودة عيد الميلاد لم يدم هذا المشروع طويلًا، فبعد وفاة كرومويل عام 1658 بدأت الجمهورية تتفكك وعجزت عن توريث السلطة أو الحفاظ على التوازن بين القمع والاستقرار. عام 1660، عادت الملكية رسمياً وعاد معها عيد الميلاد والأسواق والطقوس التي حاول النظام الجمهوري محوها. بيد أنّ هذه التجربة تركت أثراً عميقاً في الذاكرة البريطانية، كونها كشفت حدود محاولة فرض الفضيلة بالقانون وحدود تدخل الدولة في تفاصيل الحياة اليومية. بعد أكثر من ثلاثة قرون، يصعب تخيّل لندن بلا عيد الميلاد. لم يعد العيد مسألة إيمان بقدر ما أصبح موسماً مدنياً شاملاً، يشارك فيه الجميع بغض النظر عن معتقداتهم. وربما تراجعت مركزيته الدينية لكنه اكتسب قوة ثقافية واقتصادية جعلته عنصراً من عناصر هوية المدينة الحديثة. هذه التحولات لم تلغِ التوتر مع العيد، بل  بل أعادت إنتاجه بصيغة مختلفة. فبدل المنع، هناك ضغط المشاركة. وبدل السلطة الأخلاقية، هناك سلطة السوق التي تُعيد تعريف الفرح والاحتفال وفق منطق الاستهلاك. بين لندن وأماكن أخرى في هذا المعنى، تفتح تجربة لندن، ماضياً وحاضراً، نافذة مقارنة مع مدن في المشرق العربي، حيث لا تزال الأعياد الدينية مرتبطة بالوجود أكثر من ارتباطها بالموسم. هناك، لا يُمارس عيد الميلاد بوصفه حدثاً عاماً شاملاً بل لكونه طقسا مشدودا إلى الكنيسة، والحيّ والعائلة وإلى شعور بأن الاحتفال نفسه فعل إثبات للهوية. وبينما استطاعت لندن، عبر قرون من التحولات السياسية، أن تنزع عن العيد طابعه الصراعي وتحوّله إلى مساحة مدنية محايدة، لا تزال الأعياد في تلك المدن محمّلة بذاكرة ثقيلة، حيث يصعب فصل الدين عن المجال العام أو تفريغ الطقس من معناه الوجودي. تظهر قصة عيد الميلاد في لندن أن الأعياد ليست تفاصيل هامشية، بل مرايا تعكس علاقة السلطة بالمجتمع. ففي القرن السابع عشر، حاولت الدولة إلغاء العيد لضبط الناس واليوم تكتفي بإدارته، بينما يتولى السوق والإعلام إعادة إنتاج معناه. بين المنع والإفراط، تكشف تجربة لندن كيف يتبدّل الفرح حين تنتقل السيطرة عليه من يد السلطة إلى يد السوق، من القمع الصريح إلى الإغراق الكامل. فالطقوس لا تفقد معناها دفعة واحدة لكنها تتغيّر، تُعاد صياغتها وتُفرغ أحياناً من توترها السياسي ومن طابعها الديني لتصبح جزءاً من إيقاع يومي أوسع.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows