Arab
رغم محاولات كسر حالة الحزن الفلسطينية القائمة من خلال إضاءة أشجار الميلاد في بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا، فإن هذه المبادرات بدت محدودة الأثر، وإن اعتبرها البعض فعل مقاومة وصمود.
يمرّ عيد الميلاد في فلسطين هذا العام مثقلاً بظلال الحرب على قطاع غزة، والواقع الأمني الصعب الذي تعيشه الضفة الغربية، وتغيب مظاهر الفرح عن كثير من الشوارع، وتحضر الصلوات مكانها، بينما يتحول العيد إلى لحظة تأمل جماعي، ورسالة تمسك بالهوية، حيث يصبح الاحتفال فعلاً مقاوماً في واقع يفرض الحزن ويؤجل الفرح.
في بيت ساحور، التي تُعرف بـ"بلدة الرعاة"، حيث تقول الرواية الإنجيلية إن الملائكة بشّرت رعاة الأغنام بميلاد السيد المسيح، تغيب زينة الميلاد عن كثير من البيوت. ويؤكد السبعيني حنّا رشماوي أنه اعتاد وضع شجرة مضيئة في زاوية بمنزله، لكنه تركها فارغة هذه السنة، ويقول لـ"العربي الجديد": "الشجرة لم تعد قادرة على استدعاء الفرح بعدما تحوّلت الرموز الدينية من مظاهر احتفال إلى صمت يعبّر عن حداد جماعي، وعن شعور عميق بالخذلان أمام ما يعيشه الناس يومياً، وما يكوّنونه من موقف أخلاقي وسياسي تجاه الأحداث".
ويعتقد رشماوي أن "أعياد الميلاد هذا العام لا تختلف كثيراً عنها في العامين الماضيين، فإعلان وقف إطلاق النار في غزة لم يُنهِ الحرب، واستمرار سقوط الضحايا يعزز شعوراً عاماً بعدم الثقة، وبأن المعاناة ما زالت قائمة، وهذا الواقع ينعكس مباشرة على المزاج العام للفلسطينيين، ويجعل من الصعب استعادة طقوس الفرح المعتادة".
ولا تقتصر أسباب هذا الفتور على ما يجري في غزة، بل تمتد إلى الأوضاع المتفاقمة في الضفة الغربية، من تصاعد الاستيطان والقيود المفروضة على الوصول إلى الأماكن المقدسة، ويضاف إلى ذلك التدهور المعيشي الذي يطاول بشكل خاص محافظة بيت لحم، والمعتمدة تاريخياً على السياحة الدينية.
يقول رشماوي: "الحزن حاضر بقوة في النفوس، ما انعكس على طبيعة الاحتفالات التي تقتصر على الشعائر الدينية. الكثير من العائلات امتنعت عن تزيين منازلها، باستثناء زينة خفيفة في بعض البيوت التي تضم أطفالاً، في محاولة لإدخال شيء من الفرح إلى قلوبهم، وعلى الصعيد الديني، تستمر المشاركة في القداديس والاحتفالات الكنسية وزيارة الأماكن المقدسة بوصفها جزءاً أصيلاً من العادات الدينية والتراثية، ومن التمسك بالهوية الوطنية في وجه محاولات الطمس والتهميش".
في بيت لحم، تحاول الثلاثينية جولي الحذوة التقاط خيطٍ من الأمل، وتقول لـ"العربي الجديد": "أجواء العيد بدأت تعود تدريجياً، لكنّها تعود مثقلة بالقلق والانشغال، فالأوضاع غير واضحة مع هشاشة حالة الأمان التي لا تترك مساحة حقيقية للاحتفال، ويقتصر كل شيء على حدود المنزل، وفي بعضها أيضاً كان الفرح مؤجلاً نتيجة العيش في دائرة خوف دائمة بفعل الأحداث الجارية".
وترى جولي أن "هذا العام يحمل فارقاً إنسانياً، وإن كان محدوداً، فالعائلة ستخرج لمعايدة الأقارب والجيران في محاولة واعية لإعادة البهجة إلى قلوب الأطفال، رغم الصعوبات القائمة على الطرق، فالحواجز الإسرائيلية باتت أكثر تشدداً، ما يقيّد الحركة، ويؤثر على الزيارات العائلية، ويجعل الفرح مشروطاً بإجراءات ومعابر وانتظار. لكن المشهد تغير داخل البيت، فالتماثيل والطقوس حضرت هذا العام، تقول جولي، والفرح الذي غاب في السنتين الماضيتين بدأ يعود بخطوات خجولة. زيّنت العائلة المنزل، ووضعت شجرة الميلاد وسائر مستلزمات العيد في محاولة لصناعة مساحة دافئة تحفّز الأطفال على الفرح، وتمنح العيد معناه الإنساني البسيط، حتى وإن بقيت الحرب حاضرة في الخلفية".
من بلدة بيت ساحور، يعكس لطفي أبو حشيش (74 سنة)، تجربة الأعياد في ظل واقع فلسطيني مضطرب، ويقول لـ"العربي الجديد": "حرب الإبادة حجبت عن الناس أي استعداد نفسي للاحتفال، حتى أن الصلوات اقتصرت على بعض العائلات، فيما غابت المظاهر الاحتفالية عن الشوارع والمنازل. شارك الناس في بعض الفعاليات الرمزية، مثل إضاءة أشجار الميلاد، وتنظيم مؤسسات محلية احتفالات، لكن الحوارات خلال هذه المناسبات لم تخرج عن الحديث حول المأساة المستمرة، سواء في غزة، أو في الضفة الغربية، حيث إغلاق الطرق، وصعوبة التنقل بين القرى والمدن".
ويوضح أبو حشيش أن "الحضور في الاحتفالات قائم، لكنه محدود، فمنزلي لم يشهد وضع شجرة الميلاد، بينما زيّنت الشجرة منازل بناتي وأحفادي. لا ضرورة لأن تكون هناك شجرة في كل منزل، إلا تلك التي تضم أطفالاً، ويعكس غيابها قسوة الظروف المحيطة ووعي المسيحيين بها. عدد أفراد أسرتي يبلغ 22 شخصاً، وهناك زيارات متبادلة، لكن لا تبادل للهدايا. سنكتفي هذا العام باستعادة عشاء الميلاد الذي يجمع العائلة بمناسبة العيد. الأعياد مناسبة للتأمل والدعاء، ورغم كل الظروف الصعبة، أظل متفائلاً، مؤمناً بأن المستقبل قد يحمل تغييراً، ولو بسيطاً".
بدوره، يؤكد راعي طائفة الروم الأرثوذكس الأب إلياس عواد، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه بعد عامين مثقلين بالحروب والمآسي، جاءت استعدادات عيد الميلاد محاولةً لزرع البهجة من دون تجاهل الجرح المفتوح، ويشير إلى أن "انطلاقة العيد هذا العام بدأت بإضاءة شجرة الميلاد وتزيين الميادين والشوارع في بعض المدن والبلدات، خاصة في بيت لحم، في مشهد يحمل رغبة واضحة في إعادة الأمل إلى نفوس الفلسطينيين، رغم أن الحرب لم تنتهِ بشكل كامل، على أمل أن تُساهم الصلوات والاحتفالات في أن يعمّ السلام في أرض السلام، وينال الشعب الفلسطيني حقوقه في الحرية والأمن والاستقرار".
ويُبرز عواد تباين المشهد بين المدن الفلسطينية؛ ما بين تقليص مظاهر الاحتفال أو الاحتفال الكامل، فمدينة بيت لحم، بحكم مكانتها الدينية وتوجّه أنظار العالم إلى كنيسة المهد ومغارة الميلاد، أقامت احتفالات كاملة، وهي احتفالات وطنية قبل أن تكون دينية، لأنها تجمع الفلسطينيين على الوحدة والعيش المشترك، داعياً إلى عدم نسيان غزة "المجروحة"، ووقف الدمار وإعادة الإعمار، وضمان عودة الناس إلى بيوتهم وأعمالهم، إلى جانب التأكيد على حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم.
من رام الله، تقول الصحافية هند شريدة لـ"العربي الجديد"، إن "أكثر من 4% من المجتمع المسيحي في غزة استشهدوا خلال حرب الإبادة، وهذه الخسارة لا يمكن اختزالها في أرقام، فكل شهيد يحمل قصة. لا ينفصل المسيحيون الفلسطينيون عن شعبهم، فحزنهم جزء من الحزن الفلسطيني الممتد، والذي تجلّى بأقسى صوره في الحرب الأخيرة، وقد رفض مسيحيو غزة أوامر الإخلاء، واختاروا البقاء في كنائسهم مع أبناء شعبهم، وهذا الصمود تحوّل إلى فعل إيمان ومقاومة، إلى شهادة حيّة على أن الوجود المسيحي في فلسطين ليس طارئاً ولا مؤقتاً".
ولا يغيب ملف الأسرى الفلسطينيين عن مشهد العيد، إذ تشير شريدة إلى وجود نحو عشرة آلاف أسير في سجون الاحتلال، من بينهم أسرى مسيحيون، وتؤكد حرمانهم من أبسط حقوقهم، ومنها إدخال الكتاب المقدس، مستشهدة بحالة الأسير إبراهيم مسعد المبعد إلى مصر، والذي حُرم من عائلته بعد عشرين عاماً من الأسر، إضافة إلى سياسات التصاريح والحواجز التي تجاوزت ألف حاجز وبوابة، والتي مزّقت حياة الفلسطيني، وحوّلت التنقل والزيارات العائلية إلى مخاطرة يومية في ظل اعتداءات المستوطنين التي تطاول القرى والبلدات والقدس القديمة.
ويؤكد الفلسطيني سليم عنفوص، من بلدة عابود، غرب رام الله، لـ"العربي الجديد"، أن عيد الميلاد يحلّ هذا العام مثقلاً بمشاعر متناقضة، مشيراً إلى أن "استمرار الواقع القاسي على الأرض، خاصة في قطاع غزة، لا يجعل العيد مناسبة فرح مكتملة، بل لحظة صمود في زمن استثنائي. الحرب لم تتوقف فعلياً، بل خفّ حضورها الإعلامي فقط، بينما تبقى آثارها حاضرة في كل تفاصيل الحياة. معنى العيد بالنسبة لي بوصفي مسيحياً فلسطينياً يتجاوز المظاهر والزينة، ليتمحور حول رسالة السلام والعدالة والنور، فالميلاد ليس شجرة وهدايا بقدر ما هو تذكير بقيم إنسانية عميقة، وبأن الفلسطينيين ليسوا أبناء الظلمة بل أبناء النور".
ويلفت عنفوص إلى التغير الواضح في طقوس الاحتفال، حيث غابت المفرقعات والاحتفالات الصاخبة، واقتصرت الفعاليات على الصلوات والترانيم وبعض الأنشطة الموجهة للأطفال، مؤكداً أن ذلك "لفتة إنسانية تعكس وعياً جماعياً بحجم الألم، ومحاولة للاحتفال من دون إنكار المعاناة. يبقى العيد فعلاً رمزياً للمقاومة بالحياة، واحتفالاً ناقص الفرح، كامل المعنى والدلالات بالصمود على الأرض".

Related News
الذهب يتجاوز كل التوقعات في مصر.. ما سعر عيار 21؟
al-ain
24 minutes ago