فيلم "الست"... لا فيه فيلم ولا فيه ست
Arab
3 days ago
share
لا تبدأ مشكلة فيلم "الست" من أمِّ كلثوم، بل من مفهوم السينما نفسه: ما هذا؟ ليست السينما تجميعَ لقطات، بل ترتيبها لصناعة زمنٍ ومعنى وإيقاع، ثم تحويل الصورة إلى خطاب. هنا لا ترى سوى ومضات على طريقة: "مرّة الست قالت.. راحت.. عملت". وليت الفيلم توقّف عند تحويل الشائعات إلى سينما، بل تجاوز ذلك إلى صناعة شائعاتٍ من العدم؛ فبدا غائباً من مفهوم السينما، وغائباً عن قصة أمّ كلثوم وأحداثها وأبطالها، في تعبير واضح عن عجز صُنّاعه عن إعادة تخييل أمّ كلثوم كما ينبغي، ولجوئهم (عوضاً عن ذلك) إلى إعادة تصنيعها داخل تاريخ مُتوهَّم. ولكن لصالح مَن، ولماذا؟ لستُ مشغولاً بالتفتيش في نيّات صنّاع الفيلم ومنتجيه، وإن كان ذلك جديراً بالبحث، بل مشغولاً بالفيلم نفسه (إن جازت التسمية) أيّاً كانت مراميه. ثمّة أسئلةٌ تفرض نفسها على المشاهد الذي يعرف ما السينما، وما السيرة السينمائية، ومَن أمُّ كلثوم. منها: لماذا أراد الفيلم منذ المشهد الأول أن يخبرنا أن لا قيمة لما حدث، وأن الكاتب وحده مَن يقرّر ماذا حدث ولماذا؟ تخيّل نفسك ترى فيلماً عن نصر حرب أكتوبر (1973) قرّر مؤلفه أن قناة السويس اسمها "قناة بنها"؛ هذا بالضبط ما حدث حين رأيت أمَّ كلثوم تسقط في حفلتها "الأولى" على مسرح الأوليمبيا الباريسي وهي تغنّي "أنت عمري"، فيما يعرف كل مَن قرأ أو شاهد أيَّ مادّة عن الواقعة أنها سقطت في حفلتها "الثانية" في أثناء غنائها "الأطلال". اختلق المؤلّف أغنيةً ويوماً وترتيباً وسياقاً، من دون هدف واضح يخدم التخييل أو إعادة بناء المعنى. كان الهدف (فيما يبدو) تفريغ المعنى. ولكن لماذا؟ جاءت أمُّ كلثوم من قريتها إلى القاهرة، وغنّت، ورفضها الجمهور وسخر منها بسبب ملابسها وأدائها الإنشادي، لكنّها تجاوزت ذلك كلّه ونجحت وتألّقت وماتت، وكانت جنازتها أسطورية. هذا هو كل ما تخبرنا به قفزات فيلم "الست" فوق منطق السينما وحرفة تخييل السِيَر. في التاريخ الحقيقي، انتزعت أمُّ كلثوم حقها امرأة في أن تكون حاضرةً وفاعلةً ومؤثّرةً: في أن تلبس كالنساء لا كالرجال، كما أراد أبوها ومحيطها، وفي أن تكون صوت الحركة الوطنية المصرية، لا مادّةً للتسلية والخلاعة، وفي أن تغنّي وتمثّل وتنتج وتكتب مقالاتٍ، وتترشّح لمنصب نقيب الموسيقيين وتفوز على "رجال" زعموا أنه لا حقّ لها في رئاستهم لأنها امرأة، وفي أن توسّع "الممكن" أمام المرأة المصرية والعربية في ذلك الوقت. وذلك كلّه مادة درامية مكتفية بذاتها؛ ما أغناها، وما أحوجنا إليها! لكن صنّاع "الست" رأوا أن "أنسنة" أم كلثوم (كما يزعمون) تقتضي تحويل "أنوثتها" إلى منحةٍ أرستقراطيةٍ من إحدى سيدات المجتمع الراقي (إيجيبت حالياً)، وأن نجاحها في انتخابات نقابة الموسيقيين استند إلى عملية ابتزاز (مختلقة بالكلية) لأفراد فرقتها وتهديدهم في أرزاقهم إذا لم ينتخبوها. أمّا انحيازها لقضايا بلادها فهو (تقريباً) غائب قبل ثورة يوليو (1952)، وحاضر "على خفيف" بعد نكسة العام 1967 (لماذا؟). نحن أمام سيرة أهم فنّانة عربية في التاريخ الحديث، "مؤسّسة ثقافية" كما وصفتها الباحثة الأميركية فيرجينيا دانيلسون في كتابها عنها: "صوت مصر". ولن تنفي أنسنتها المزعومة بوصفها صاحبة مُنجَز فريد فنّياً وثقافياً وحضارياً (وإنسانياً). أين هو؟ في زمنٍ سكن ذكاء البشر في الآلة، لم يستطع "آلاتي" الصورة السينمائية تسكين صوت أمِّ كلثوم في شخصيتها الدرامية: لا مطربة، ولا حتى متحدّثة. صوت غير الصوت، شكل غير الشكل، شخصية غير الشخصية، روح غير الروح، مع بعض الإبهار الإنتاجي تعويضاً عن المعنى. ومن ثم لن يزيد الفيلم مَن يعرفون "الست" إلا استهجاناً، وتحليلات (مستحقّة) حول التناول "المغرض" لها وأسبابه السياسية (وغيرها). أمّا مَن لا يعرفونها فلن يحبّوها ولن يكرهوها ولن يفهموها، ولن يفهموا لماذا حظيت أمُّ كلثوم بهذه المكانة كلّها، فيما هي (كما ظهرت في فيلم "الست") مجرّد مطربة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows