معجم الدوحة... من الرقم إلى الرقمنة
Arab
3 days ago
share
استوى معجمٌ منشورٌ يحتوي على أكبر كنزٍ لغوي في العالم، ممّا رُقِّم قبل الهجرة بقرونٍ أربعة إلى عصر الرقمنة الذي نعيش. عدد كلماته نحو 600 مليون، تدعمها مدوّنة حديثة مُلحقة بالمعايير ذاتها، عدد كلماتها نحو 400 مليون. وتُعزَّز هذه المدوّنة بأُخريَتيْن: "مدوّنة الويب العربية"، وحجمها في نسختها الحديثة 6.5 مليارات كلمة، و"مدوّنة الويب العربية المختومة زمنيّاً"، وحجمها في نسختها الحديثة نحو خمسة مليارات كلمة. وتُشكّلان معاً فضاءً واسعاً للبحث عن ألفاظ اللغة العربية ومعانيها المستعملة في النصوص التي أحصاها معجم الدوحة، منظَّمة في بوابة إلكترونية تضمّ زهاء 300 ألف مُدخلٍ معجمي لألفاظ اللغة العربية ومعانيها على مدى تاريخها. وقد استُخلصت هذه الألفاظ والمعاني من الشواهد اللغوية المستعملة في النقوش التي يعود تاريخ بعضها إلى أربعة قرون قبل الهجرة، ورُقمنت وفق أحدث أنظمة جمع البيانات، وصولاً إلى الذكاء الاصطناعي الذي يرصد استخدام المفردات والمصطلحات في المجالات الأدبية والدينية والعلمية والمعرفية والفنّية عبر تاريخ الحضارة العربية والإسلامية. وفوق ذلك، يتناول المعجم الألفاظ الأعجمية المستعملة في العربية من اللغات التي تفاعلت مع العربية عبر التاريخ، كاللاتينية واليونانية والفارسية واللغات الأوروبية الحديثة، علاوة على مواد "الجذور النظائر" التي تشترك مع العربية في العائلة السامية، من قبيل العبرية والسريانية والآرامية البابلية والآرامية الشفطرية والسبئية والمصرية وغيرها. ويضم هذا المعجم مدوّنة نصّية للغة العربية في نحو مليار كلمة، تتضمّن نصوص العربية من عصر ما قبل الإسلام، وفي كل مجالات القول والتأليف في الآداب والعلوم والمعارف والفنون، وعلى امتداد جغرافي واسع. وهي مدوّنة مهيكلة ومؤرّخة وموثّقة، وقابلة للإغناء والبحث والاسترجاع. قيمة المشروع أنه يربط تاريخ العربية المبكر، حتى قبل الهجرة بقرون، بأنظمة رقمنة حديثة ترصد الاستعمال عبر العصور بدأت الفكرة أولًا عند المستشرق الألماني أوغست فيشر (August Fischer) (1865–1949)، إذ قال "إنّ المعاجم العربية لا تعرض التطوّر التاريخي لمعاني الألفاظ، ولذلك فإن اللغة العربية تحتاج إلى معجمٍ تاريخيٍّ يتتبّع استعمال الكلمات في نصوصٍ مؤرَّخة عبر القرون". وظلت الفكرة حبيسة المقالات العلمية إلى أن قرّر، قبل نحو قرنٍ، مجمع اللغة العربية في القاهرة مرسوماً يقضي بإنشاء معجم تاريخي للغة العربية عام 1932، لكن المرسوم ظلّ حبراً على ورق. فأي مشروعٍ ذلك الذي ستُقدِم عليه مؤسّسةٌ وهي تعلم أن غيرها من الأمم قد أخذ منه مثلُ هذا المشروع زهاء سبعة عقودٍ على الأقل، كما حدث في معجم أكسفورد للغة الإنكليزية الذي بدأ العمل في تنفيذ مخطّطه عام 1857 وأُنجز عام 1928، وبعضها استغرق أكثر من قرنٍ، كما هي الحال مع "المعجم التاريخي للغة الألمانية" الذي بدأ عام 1838 وأُنجز عام 1961! هذه العقبات العلمية والتمويلية، والأسوأ منها الظروف السياسية. فقد طُرحت الفكرة للمرّة الأولى من المعجمي الشهير منير بعلبكي على الدكتور عزمي بشارة في 2011، العام الذي شهد الربيع العربي بكل ما حمله من أحلام وما رافقه من تحدّيات. وأُعلن عنه في 2013، وهي السنة التي عصفت فيها رياح الثورة المضادّة بأزهار الربيع العربي وعاد الاستبداد بشكل أكثر قسوة. وسط هذا الكابوس يشبه المعجم برج "إمباير ستيت" في نيويورك الذي بُني في ذروة الكساد العظيم ليعطي الأميركيين أملاً وعزيمة. وفي وقت بلغت فيه محاولات تشويه الدوحة وشيطنتها مداها، وسط حالٍ من التشظّي والاستقطاب والانقسام عربياً، أطلقت الدوحة ما يجمع الشمل ويحيي الأمل. بعد نحو قرنٍ من مرسوم مجمع اللغة العربية في القاهرة الذي لم يُنفَّذ في مصر الناصرية، ولا في العراق وسورية اللذين حكمتهما أنظمة قومية نصف قرن، ولا في غيرها من دول ومؤسّسات عربية… قطر الصغيرة في جغرافيتها وعدد سكّانها، الكبيرة في أهدافها وتطلّعاتها، أنجزت المشروع بدأبٍ وإتقانٍ وإبداع. واللغة كائن حي يتشكّل بحسب الزمان والمكان كإنسان؛ ولكل مفردة تاريخ، والتعامل معها بلا تاريخ انتقاص وتجاهل. ومن مآثر اللغة العربية تاريخها المديد الذي ينوف على ألفي عام، وامتدادها الجغرافي الذي لم يستثن بلداً. وكما خلّد "معجم أكسفورد" تلك البلدة البريطانية وصار اسم الإنكليزية لا يُذكر إلا وتُذكر معه أكسفورد، تهدي الدوحة اليوم معجمها لأمّة العرب؛ وبقدر ما هو تكريم للغة العربية فهو تكريم للدوحة التي نالت هذا الشرف. وما كان ذلك ليتحقّق لولا أن أميراً عربياً، هو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، سخّر إمكانات قطر في الخير وخدمة الأمّة ولغتها، ورعى مشروعاً ثقافياً وعلمياً بهذا الحجم، وراهن على العلماء والمثقفين واستثمرّ في العقول؛ ولولا مفكّراً كالدكتور عزمي بشارة انشغل بتحقيق حلم تأخّر قرناً، باستقطاب الخبرات والمواهب في اللغة والتقنية، وصبراً وتحفيزاً وحدباً حتى استوى على سوقه. في أول سنة من حكم الشيخ تميم بدأ المشروع، واكتملت المرحلة الأولى منه في 2018 في ذروة حصار قطر، وكان هدية الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير دولة قطر، للأمة العربية. لم تكن ولادة المشروع سهلةً، وبحسب بشارة "المخاض العسير"، في وقت تمرّ فيه الأمّة "بظروف عصيبة غير مسبوقة في صعوبتها، ليس بسبب الأضرار الماديّة على مستوى الأفراد والمجتمعات والشعوب وسيادة الدول فحسب، بل أيضاً للضرر الكبير على المستويين المعنويّ القيميّ الأخلاقيّ، والحضاريّ؛ فالدول تتفرج على عملية إبادة جارية، وتشهد عملية تقويض سافرة لسيادة دول عربية أخرى وتحويل المنطقة العربية إلى إقليم نفوذ للدخلاء عليها. والأمّة مشلولة الإرادة. ويكاد المرء يُصاب بالحرج حين يهمّ بأن يخط بلاغاً متضمناً بشرى من هذا النوع، لولا أن هذه الأمّة تستحقّ أن تُذكَّر بأنها حيّة على الرغم من كل شيء، وأن من قاموا بمثل هذا العمل ليسوا استثناءً؛ ففي كل بلد عربي ثمّة رجال ونساء يؤدّون عملهم بإتقان وبدافع المسؤولية والضمير". ثم يغدو مشروع بناء معجمٍ تاريخي أكثر إثارةً للتهيّب والتردّد عندما تكون اللغة المستهدفة بصناعة المعجم التاريخي هي العربية بكل تاريخها الطويل وبنائها المترامي الأطراف؛ لغة يمتد استعمالها الحي أكثر من خمسة عشر قرناً، تنتمي إلى أسرة لغوية عريقة موغلة في القدم هي أسرة الساميات، وما تضمّه هذه الأسرة من لغاتٍ شقيقةٍ للعربية أثّرت فيها وتأثّرت بها، وبينها الكثير من المشتركات. وتتشعّب اللغة العربية كذلك إلى لهجات عربية قديمة ابتعدت الشقة بينها وبين العربية الحديثة (عربية قريش والقرآن الكريم) حتى قال أبو عمرو بن العلاء (توفي منتصف القرن الثاني للهجرة) قولته: "ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا، ولا عربيتهم بعربيتنا". فعندما تأسّس مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1932، الذي تكفّل بموجب المادة الثانية من مرسوم إنشائه "بوضع معجم تاريخي للغة العربية". وللمقارنة المؤسفة، كان العمل جارياً وقتها في بريطانيا على إصدار الطبعة الجديدة من "قاموس اللغة الإنكليزية الجديد القائم على المبادئ التاريخية والمعتمد أساساً على المواد التي جمعها المجمع اللغوي البريطاني". وفي 1933، سقطت هذه التسمية الطويلة العجيبة، وصار القاموس الإنكليزي رسمياً هو "قاموس أكسفورد"، وهو المعجم التاريخي الكبير للإنكليزية، المطبوع حينها في 12 مجلداً مع ملحق واحد، بحسب الباحث محمد زيدان. المعجم ليس خاتمة مغلقة، بل بداية مفتوحة تتغذى من تفاعل القراء والباحثين وتحديثات الرقمنة تتابعت الملاحق بعدها ونما المعجم، ثم خرج في طبعته الثانية عام 1989 في 20 مجلداً بالطبعة الكبيرة الكاملة؛ زهاء 22 ألف صفحة. وقبل ذلك بعام، توفّرت النسخة الإلكترونية من "قاموس أكسفورد". وبعد 11 عامًا، في مطلع الألفية الجديدة، بات القاموس متاحاً على شبكة الإنترنت. استغرق هذا العمل المثابر عقوداً بطولها: فالطبعة الأولى صدرت بعد 70 عاماً من بدء تنفيذ الفكرة وجمع المواد في منتصف القرن التاسع عشر، أمّا الطبعة الثانية فقد نُشرت بعد 132 عاماً من العمل المضني والدؤوب الذي بذلته أجيال من كبار الباحثين واللغويين. واليوم، بعد أن أعلن الدكتور عزمي بشارة اكتمال المشروع لا كماله، وفي ظلّ الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يغدو معجم الدوحة شجرةً حيّةً تنمّي وتتغذّى بملاحظات وتفاعل القراء والعلماء كأوراق الشجر الخضراء الحيّة، لا أوراق الكتب. والكرة اليوم في مرمى القارئ ليستثمر في هذا الكنز.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows