Arab
يجب على الأسواق توخي الحذر عند المراهنة على المستوى الذي ستستقر عنده أسعار الفائدة. فالبنوك المركزية تتعرض لضغوط متزايدة لتقديم توجيهات بشأن سعر الفائدة المحايد، وهو المستوى الذي لا يحفّز الاقتصاد ولا يقيّده، غير أن الوصول إلى هذا التقدير ليس بالأمر البسيط. لقد أجبرت فترة التضخم المرتفع والممتدة البنوك المركزية على التخلي عن سياسة التوجيه المسبق للأسواق، والانتقال إلى نظام يعتمد على البيانات في تحديد أسعار الفائدة.
ونتيجة لذلك، أصبحت توقعات الأسواق للسياسة النقدية المستقبلية أكثر تقلباً بكثير مقارنة بالفترة التي تمتعت فيها البنوك المركزية بقدرة أكبر على توجيه هذه التوقعات، بحسب صحيفة ذا تايمز. ويرغب المحللون والمستثمرون اليوم في أن يقدم صانعو السياسات النقدية بعض الإرشادات حول المستوى الذي ستستقر عنده أسعار الفائدة عندما يعود التضخم إلى 2%.
وقد خلق ذلك توقاً متزايداً إلى تقديرات رسمية لما يُعرف بسعر الفائدة المحايد، أي المستوى الذي لا يكون فيه سعر الفائدة محفزاً ولا مقيّداً لاقتصاد ينمو عند طاقته الكامنة ويحافظ على التضخم عند 2%. وقد لبّى بعض صانعي السياسات هذا الطلب، ليصبح جزء كبير من الجدل حول السياسة النقدية في العام المقبل مؤطراً حول موقع هذا السعر. لكن يبقى السؤال: هل يمكن للبنوك المركزية استخدام تقديرات سعر الفائدة المحايد لتحديد أسعار الفائدة أو لتوجيه مسار السياسة النقدية على آفاق زمنية قصيرة نسبياً؟ هذا سؤال مشروع، خصوصاً أن هذه التقديرات تستند إلى نماذج اقتصادية تهدف إلى تحديد سعر فائدة توازني يوازن بين عرض الادخار والطلب عليه.
أصبحت توقعات الأسواق للسياسة النقدية المستقبلية أكثر تقلباً بكثير مقارنة بالفترة التي تمتعت فيها البنوك المركزية بقدرة أكبر على توجيه هذه التوقعات
من حيث المبدأ، يُفترض أن تقترب أسعار الفائدة من المستوى المحايد مع اقتراب التضخم من الهدف، عندما لا تعود السياسة النقدية بحاجة إلى أن تكون تقييدية. وقد يفسر ذلك ازدياد التركيز على هذه التقديرات خلال العام الحالي. غير أن هناك عدداً من الأسباب التي تدعو إلى الحذر من الاعتماد عليها للتنبؤ بما ستفعله البنوك المركزية في عام 2026.
أولًا، إن هذه التقديرات ليست دقيقة أو متينة بما يكفي. فداخل البنوك المركزية نفسها، توجد اختلافات واضحة بين صانعي القرار. ففي المملكة المتحدة، قد تصل هذه الفروق إلى نحو نقطة مئوية كاملة. أما البنك المركزي الأوروبي فقد أعلن عملياً أنه عند المستوى المحايد أو قريب منه، من خلال وصفه لموقف السياسة النقدية بأنه في مكان جيد. وعلى عكس المملكة المتحدة، فإن التضخم في منطقة اليورو قريب من المستوى المستهدف، والنمو عند الطاقة الكامنة، إلا أن الخلافات لا تزال قائمة داخل البنك المركزي الأوروبي حول موقع السعر المحايد.
وفي الولايات المتحدة، يرى بعض أعضاء الاحتياطي الفيدرالي أن سعر الفائدة الحالي تقييدي، في حين يعتبره آخرون تيسيرياً وربما ينطوي على مخاطر عودة التضخم إلى الارتفاع. وكما ورد في إحدى دراسات الاحتياطي الفيدرالي، فإن فترات الثقة واسعة إلى حد لا يسمح بالجزم بدقة ما إذا كان سعر الفائدة الحالي أعلى أو أدنى من السعر المحايد، وهو ما يحد جوهرياً من فائدته التشغيلية.
ثانيًا، تؤثر المستويات المرتفعة والمتزايدة من الدين العام في معادلة السعر المحايد. فالبنوك المركزية تقوم حالياً ببيع السندات التي اشترتها خلال فترة التيسير الكمي الطويلة، وتطلب من الأسواق استيعاب هذا الدين. وقد يؤدي ذلك إلى رفع السعر المحايد بشكل ملحوظ فوق التقديرات الحالية، ولمدة ممتدة. وإدراكاً لهذا الواقع، أنهى الاحتياطي الفيدرالي عملية تقليص حيازته من السندات، المعروفة باسم التشديد الكمي، في وقت تزيد فيه الحكومة الفيدرالية من وتيرة إصدار الديون.
لا يوجد ما يضمن أن التضخم سينخفض ويظل عند المستويات المستهدفة لفترة طويلة في اقتصادات الدول الغنية. وقد يتبين أن توقعات المركزي الأوروبي بشأن التضخم كانت مفرطة في التفاؤل
وفي الاتحاد الأوروبي، سيحدّ تقدم السكان في السن وارتفاع الإنفاق الدفاعي من قدرة الحكومات على تحقيق ضبط مالي واسع. وقد أدّى البنك المركزي الأوروبي أداءً أفضل مما كان متوقعاً في تقليص ميزانيته العمومية بشكل سلبي، لكنه قد يضطر إلى خفض وتيرة التشديد الكمي إذا واجهت الحكومات الأوروبية صعوبات في كبح عجز الموازنات. أما بنك إنكلترا، فقد كان الأكثر تشدداً في بيع السندات، لكنه هو الآخر خفّض وتيرته مؤخراً.
وثالثا وأخيراً، لا يوجد ما يضمن أن التضخم سينخفض ويظل عند المستويات المستهدفة لفترة طويلة في اقتصادات الدول الغنية. وقد يتبين أن توقعات البنك المركزي الأوروبي بشأن التضخم كانت مفرطة في التفاؤل، في حال جرى تأجيل تطبيق نظام تداول أرصدة الكربون الموسع في التكتل حتى عام 2028، كما يبدو مرجحاً.
وللتوضيح، لم تدّعِ البنوك المركزية أنها تستخدم تقديرات السعر المحايد لتحديد أسعار الفائدة أو لتوجيه الأسواق. لكنها تشير إليها بوتيرة متزايدة، إلى حد يجعل الأسواق غير قادرة على مقاومة محاولة المراهنة على المستوى الذي قد تستقر عنده أسعار الفائدة، غير أن المشكلة تكمن في أن هذه الأسعار قد لا تستقر طويلًا.
يكشف الجدل المتزايد حول سعر الفائدة المحايد حدود قدرة الأسواق على استشراف المسار المستقبلي للسياسة النقدية في مرحلة تتسم بقدر عالٍ من عدم اليقين. فعودة التضخم إلى مستوياته المستهدفة لا تعني بالضرورة دخول الاقتصادات المتقدمة في حقبة استقرار نقدي طويل الأمد، ولا تضمن أن تستقر أسعار الفائدة عند مستوى واحد يمكن البناء عليه في القرارات الاستثمارية أو المالية.
فالبيئة الاقتصادية العالمية اليوم تختلف جذرياً عمّا كانت عليه خلال العقد الذي أعقب الأزمة المالية العالمية، إذ تتقاطع ضغوط الديون العامة المرتفعة، والتحولات الديموغرافية، وتغير أولويات الإنفاق الحكومي، ولا سيما في مجالات الدفاع والتحول المناخي، مع واقع جيوسياسي أكثر توتراً وسلاسل إمداد أقل استقراراً. وهذه العوامل مجتمعة قد تدفع أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات أعلى من تلك التي تفترضها النماذج التقليدية، أو تجعلها أكثر تقلباً على المدى المتوسط.
الانتقال من مرحلة التيسير النقدي طويل الأمد إلى مرحلة إدارة السيولة وتشديد الأوضاع المالية يفرض على البنوك المركزية هامش مناورة أضيق
كما أن الانتقال من مرحلة التيسير النقدي طويل الأمد إلى مرحلة إدارة السيولة وتشديد الأوضاع المالية يفرض على البنوك المركزية هامش مناورة أضيق، ويقلل من قدرتها على الالتزام بمسارات مسبقة للسياسة النقدية. وفي ظل هذا الواقع، يصبح سعر الفائدة المحايد أقرب إلى أداة تحليلية غير مستقرة منه إلى مرساة يمكن للأسواق أن تثبت توقعاتها عندها.
وعليه، فإن الرهان على نقطة استقرار نهائية لأسعار الفائدة قد ينطوي على مخاطر تسعير خاطئة، سواء في أسواق السندات أو الأسهم أو العملات. فالمشهد النقدي العالمي مرشح لأن يبقى خاضعاً لتغيرات مفاجئة في التضخم والنمو والمالية العامة، ما يعني أن أسعار الفائدة قد تتحرك ضمن نطاقات متبدلة بدل أن تستقر عند مستوى واحد لفترة طويلة. وفي هذا السياق، يبدو أن الحذر والمرونة في التوقعات باتا شرطين أساسيين لفهم المرحلة النقدية المقبلة والتعامل معها اقتصادياً ومالياً.

Related News
ترامب: زيلينسكي ليس لديه أي شيء حتى أوافق عليه
alaraby ALjadeed
11 minutes ago