Arab
عُزل البطريرك إيرينيوس الأول، في سنة 2005، بعد ثبوت تورّطه في بيع ممتلكات من الكنيسة الأرثوذكسية في جبل أبو غنيم في القدس، وخلَفه في منصبه البطريرك ثيوفيلوس الثالث الذي سار على خُطا سلفه، فباع أراضيَ وقفية، وعمد إلى تأجير الإسرائيليين عقارات آماداً طويلة (99 عاماً) في باب الخليل بالقدس مثل فندق إمبريال وفندق البتراء، فقامت قيامة المسيحيين الفلسطينيين على ثيوفيلوس الثالث. ويشير هذا المثال إلى استفظاع عمليات بيع الأراضي للمستعمرين الإسرائيليين. وما برحت قصّة بيوع الأرض في فلسطين تثير الاستنكار الشديد، مع أن بعضها يكتنفه الغموض والالتباسات، ويتسربل كثيرٌ منها بالشائعات السامة والمعلومات المغلوطة. والشائعة، كما هو معروفٌ، أقوى من الحقيقة في معظم الحالات. غير أنّه من المألوف ألّا يطول عمر الشائعة كثيراً، لأنها مثل العلكة التي تفقد مذاقها بعد انقضاء وظيفتها، الأمر الذي يستوجب استبدالها واختراع شائعة جديدة.
كتبتُ غير دراسة ومقالة عن بيوع الأرض في فلسطين استناداً إلى المصادر المتاحة، مثل "جهاد شعب فلسطين" لصالح مسعود أبو يصير (1968)، و"مشكلة الأرض في الصراع القومي بين اليهود والعرب" لجاك كانو (1992)، و"أراضي فلسطين" لهند أمين البديري (1998)، و"مذكّرات سمسار أراضٍ صهيوني" ليوسيف نحماني (2010)، و"جيش الظلّ" لهيلل كوهين (2015، وترجمة هذا الكتاب في غاية السوء)، علاوة على الموسوعات التاريخية المأنوسة في هذه القضية مثل "الموسوعة الفلسطينية". وكانت غايتي الدفاع عن الفلسطينيين، وردّ الافتراءات التي طاولتهم، ونفي الشائعات التي كثيراً ما تمادت في الحديث عن بيع الفلسطينيين أراضيهم، وتفنيد التهم والأكاذيب التي حاقت بهم ولحقتهم كظلالهم في المنافي العربية.
لم يمتلك اليهود بين 1882 و1947 غير 2.7% من الأراضي، ومع أراضي الدولة صار المجموع 5.7%
وقد عثرتُ في إحدى المراحل على وثيقة مسطورة في كتاب للمؤرخ الأميركي كينيث شتاين تزعم، بالوقائع والأسماء والتواريخ، أنّ فلسطينيين، وبعضهم من مشاهير قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، باعوا مقادير من أراضيهم في فترات معينة (أنظر: The Land question in Palestine 1917-1939, The University of North Carolina Press, London, 1984). ولا شك في أن بعض تلك البيوع صحيح. لكنّ ثمّة بيوعاً زائفةً في هذا المجال، الأمر الذي جعل إسرائيل تدّعي أن أصحاب الأرض هم الذين باعوا الوكالة اليهودية ومؤسّساتها الاستيطانية أراضيهم بكامل رضاهم.
من المؤكّد أن بعض المالكين الفلسطينيين باع فلسطينيين آخرين جزءاً من أراضيه، وأن تلك البيوع تسرّبت لاحقاً إلى الوكالة اليهودية من خلال السماسرة وتجّار العقارات. ويقدّم يعقوب الغصين، وهو أحد قادة الحركة الوطنية الفلسطينية، مثالاً ساطعاً على قوة الشائعة التي روّجت أنه باع اليهود بيارته في بيت حانون بقطاع غزّة. وتبيّن أنه باع بيّارته بالفعل، لكن إلى صندوق الأمّة الذي أسسه أحمد حلمي عبد الباقي (رئيس حكومة عموم فلسطين). وفي ما بعد استولت الوكالة اليهودية على البيارة الكبيرة، وأنشأت عليها مستعمرة "نستسيونا"، وهو ما أثار المزاعم بأن يعقوب الغصين هو الذي باع الوكالة اليهودية بنفسه تلك البيارة.
وعلى هذا المنوال، اشترى شفيق زنتوت في 1929 وادي القبّاني من آل القباني اللبنانيين، ثمّ باعه إلى الصندوق القومي اليهودي في 1937، أي بعد ثماني سنوات. وكان سمسار البيع يهوشواع حانكين، وهو أحد أبرز رجال شركة تطوير أراضي فلسطين الصهيونية، ولحقت التهمة بآل القباني. واشتهر من بين سماسرة بيع الأراضي في ثلاثينيات القرن المنصرم كامل الحسين اليوسف، زعيم عشيرة الغوارنة في سهل الحولة، ومحمد الزيناتي من غور بيسان، وموسى هديب من الدوايمة، وعبد الرحمن الحاج إبراهيم من طولكرم.
صيد "الفضائح"
لكل عملية بيع قصة تختلف عن غيرها، والمشترك بينها كلّها الأرض والوكالة اليهودية ومؤسّساتها الاستيطانية التي عملت بلا كلل لامتلاك ما تستطيع من أراضي فلسطين. ومع ذلك، لم يمتلك اليهود بين 1882 و1947، أي طوال 66 عاماً، غير 2.7% من الأراضي. وتمكّنوا من الحصول على 3% من سلطة الانتداب البريطاني، وهي أراضي الدولة (الميري)، وأراضي السلطان العثماني (الجفتلك)، وبعض الأحراج، فصار المجموع 5.7%.
وكثيراً ما استُخدمت حكاية بيوع الأراضي للإساءة إلى بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية اعتماداً على "وثائق" غير متينة، كالتي نشرها كينيث شتاين (راجع أعلاه)، التي ادّعت أن كثيرين من قادة الفلسطينيين باعوا أراضيهم إلى الوكالة اليهودية أمثال رشيد الحاج إبراهيم وموسى كاظم الحسيني وطاهر محمد الحسيني وصبحي الخضراء ومعين الماضي وعبد الله الدجاني ورشدي الشوا وصدقي الطبري وسليم بسيسو وفؤاد السعد وتوفيق الفاهوم ويعقوب الغصين ورشاد الشوا وموسى العلمي وعوني عبد الهادي. وبطبيعة الحال، لا يمكن الركون إلى ما أوردته تلك الوثيقة، بل يجب التدقيق في تلك المزاعم، التي ربّما كان بعضها صحيحاً.
ما برحت وصمة بيوع الأراضي تلاحق بعض أبناء من باعوا أراضيهم منذ نحو مئة سنة، ولم يتبدّد الكلام عنها. وعلى هذا المنوال، ثمّة من يتصيّد اليوم في لبنان مثل تلك المزاعم للنّيْل من شخصياتٍ وطنية معروفة، وهو أمر فيه كثير من الدسّ والتضليل وسوء النيّة. وأخيراً استمرأ بعض هؤلاء المُتصيِّدين إثارة مسألة أراضي الحولة، ولو بطريقة جاهلة وسقيمة، للنّيْل من رئيس الحكومة اللبنانية نوّاف سلام، كأنّه هو الذي باع تلك الأرض، أو محاولة إلحاق هذه الفرية بعائلة رئيس الحكومة السابق، النزيه تمام سلام.
استُخدمت حكاية بيوع الأراضي للإساءة إلى شخصيات وطنية اعتماداً على "وثائق" غير متينة، ما يستوجب التدقيق لا التسليم
وتدفعني معرفتي بهذه المسألة الشائكة إلى معالجة تفصيلاتها علمياً وتاريخياً، لا غوغائياً أو بطريقة مشوّهة وهذيانية أحياناً. وتُرغمني حميّة العلم والحقيقة التاريخية العارية إلى عدم الموافقة أو القبول بأيّ محاولة لتشويه سمعة أيّ شخص لأغراض مريبة أو مسمومة؛ فهذا ظلمٌ لا يجوز السكوت عنه تحت أيّ ذريعة. وأيُّ باحث جدّي عليه استنفاد مراجعه قبل أن يعكف على بحثه وعلى استخلاص النتائج والحقائق. ومن المراجع التي لا يذكرها الباحثون في هذا الأمر مذكّرات "صاحب" امتياز الحولة، والمقصود به سليم علي سلام (أنظر: حسّان حلاق، مذكّرات سليم علي سلام، بيروت: دار النهضة العربية، 2019)، وكذلك كتاب "قصّة امتياز الحولة" الذي كتبه الرئيس صائب سلام بنفسه، وأورد وقائعه في مذكّراته الموسومة بعنوان "أحداث وذكريات" (بيروت: دار نوفل، 2022، في ثلاثة أجزاء). وليس من النزاهة العلمية إغفال هذَين المرجعَيْن اللذَيْن من شأنهما إعادة الأمور إلى نصابها في ميزان الموضوعية والحياد العلمي. والمؤسف أنّ بعض قليلي الدراية ما برحوا يكيلون بكيلة مغشوشة، ويسيئون إلى العلم وإلى الحقيقة العلمية معاً. وقصّة أراضي سهل الحولة تحتاج إلى مراجعة وتدقيق كي تتضح مآلاتها ومصائرها على الوجه الصحيح، وهو ما سأحاول أن أفعله هنا.
البدايات والسيطرة الاستعمارية
سهل الحولة أو "جورة الذهب" كما كان يسمّيه بعض اللبنانيين، هو، في الأصل، أرض موات لا مالك لمعظم مساحته. والأرض الموات، قانوناً وشرعاً، أرض تملك الدولة فيها حقّ الرقبة، ومن يحييها، أي من يستصلحها، يصبح مالكاً لها. أمّا امتياز الحولة فهو غير أرض الحولة، ونطاقه الجغرافي أقلّ مساحة، وهو اتفاق بين الدولة العثمانية والمستثمرَين ميشال إبراهيم سرسق ومحمد عمر بيهم يمنحهما الحقّ في تجفيف مستنقعات تلك المنطقة، ثم، عند إكمال عملية التجفيف، يتملكان الأرض لقاء ليرتَيْن عثمانيَّتَيْن ذهباً لكل دونم.
واشترط العقد الموقع في سنة 1914 تأسيس شركة لهذه الغاية يساهم فيها بعض وجهاء بيروت من عائلات احتجّت على استثنائها من تلك المنافع. وبالفعل، أُسّست "الشركة الزراعية السورية – العثمانية المحدودة"، واختار المساهمون سليم علي سلام ليرأس مجلس إدارتها، على أن يكون 80% من أسهمها لأصحاب الامتياز الأصليين، و20% لرضا الصلح (والد رياض الصلح) ومحمد الفاخوري وسليم الطيارة وحسن الأسير (راجع: حسّان الحلاق، مذكرات سليم علي سلام، ص 180، ومذكّرات صائب سلام، ص 88).
غير أن اندلاع الحرب العالمية الأولى (4/8/1914) أوقف عمليات الشركة المساهمة. وعندما انتهت الحرب في 1918 انتقلت السيطرة على فلسطين إلى بريطانيا، فتقدّم أصحاب الشركة إلى سلطات الانتداب البريطاني بطلب للسماح لهم بالمباشرة في استئناف عمليات التجفيف. لكن السلطات البريطانية طلبت منهم الانتظار. ومع صدور صكّ الانتداب البريطاني على فلسطين في 1922 خضعت الشركة وامتيازها العثماني لبنود ذلك الصكّ الاستعماري وللدستور الفلسطيني الجديد الذي منح المندوب السامي البريطاني الحقّ في تحويل الأراضي الأميرية إلى أراضٍ مملوكة، أي إلى اليهود المهاجرين.
وفي السنة نفسها التي صدر فيها صكّ الانتداب سارع المندوب السامي الصهيوني هيربرت صموئيل إلى منح بنحاس روتنبيرغ امتياز توليد الكهرباء عند بلدة سمخ جنوب بحيرة طبرية، ورأى أن امتياز تجفيف الحولة يتعارض مع امتياز روتنبيرغ، وراح يشدّد على ضرورة نقل امتياز الحولة إلى مشروع روتنبيرغ، ولا سيّما أن سهل الحولة جرى فصله عن قضاء مرجعيون في لبنان، وضُمّ إلى قضاء صفد بموجب اتفاق رسم الحدود (الموقّع في 7/3/1923) بين منطقتَي الانتدابَين البريطاني والفرنسي. وهكذا تنازل لبنان (وسورية) عن سهل الحولة إلى السيادة البريطانية، وتسلّمته السلطات البريطانية (في 7/4/1924).
ظلّت حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين تماطل في حسم المكانة القانونية للشركة الزراعية السورية – العثمانية المحدودة، وزعمت، بميولها الصهيونية، أن الشركة لا تملك أراضي الحولة. ورفضت منح الإذن لها باستئناف عمليات التجفيف. وأبعد من ذلك، راحت سلطات الانتداب تضغط على أصحاب الشركة للتنازل عن الامتياز لمصلحة شركة تطوير الأراضي الفلسطينية (PLDC)، وهي شركة يهودية (راجع: هند أمين البديري، أراضي فلسطين، القاهرة: جامعة الدول العربية، 1998، ص 227)، بحجّة أن حكومة الانتداب منحت بنحاس روتنبيرغ امتياز توليد الكهرباء من مياه نهرَي الأردن واليرموك عن نقطة التقائهما في جسر المجامع. وبالتالي لا يمكن السماح للشركة الزراعية السورية – العثمانية بالتصرّف في مياه روافد نهر الأردن في أيّ منطقة من المناطق التي تنبع منها تلك الروافد.
وبعد طول أخذٍ وردٍ بين الشركة وحكومة الانتداب البريطاني، وكان الحاج أمين الحسيني مؤازراً موقف سليم علي سلام، قرّر هيربرت صموئيل نقل القضية إلى وزارة المستعمرات البريطانية في لندن، الأمر الذي أرغم رئيس مجلس إدارة الشركة على السفر إلى لندن، في محاولة لإنقاذ الشركة ومصالح المساهمين فيها. ولم يكن أمامهم غير واحد من خيارَين: التنازل عن امتياز الحولة أو متابعة الدعوى القضائية حتى النهاية، التي كان حاييم كالفاريسكي (وكيل بنحاس روتنبيرغ) يحوم حول جميع مراحل التفاوض محاولاً اقتناص الفرصة لتحويل امتياز الحولة إلى امتياز كهرباء روتنبيرغ.
النهايات المؤلمة
أصرت وزارة المستعمرات البريطانية على استصدار امتياز جديد ليحلّ محلّ الامتياز العثماني، على أن يتضّمن تنازل الشركة الزراعية السورية – العثمانية عن امتيازها القديم المكتوب بالتركية، فرفض رئيس مجلس إدارة الشركة؛ لأنه استشعر وجود فخ لانتزاع جميع أوراقه القانونية في ما لو قبل التنازل عن امتيازه. وعند هذا الحدّ راحت وزارة المستعمرات تهدّد بإلغاء الامتياز العثماني من طرف واحد، بينما كان المحاميان نسيب أبكاريوس وعوني عبد الهادي، وبدعم من المفتي الحاج أمين الحسيني، يحاولان تجنّب الوصول إلى هذا الوضع.
في 1948 استولت "هاغاناه" على تلك الأراضي وطردت الفلاحين منها، وبدأ طور جديد من الصراع
وفي نهاية المطاف، اضطر سليم علي سلام والمساهمون، تحت ضغط وزارة المستعمرات البريطانية، إلى القبول بترتيب إرغامي يقضي بتأسيس شركة جديدة رأسمالها 250 ألف جنيه إسترليني، وهو مبلغ كبير جدّاً بأسعار ذلك الزمان. ولتأمين هذا المبلغ سعى رئيس مجلس إدارة الشركة لدى الأثرياء العرب إلى تمويل الشركة تحت التأسيس أمثال طلعت حرب والخديوي السابق عبّاس حلمي (من مصر)، والآغا خان زعيم الطائفة الإسماعيلية (من الهند)، والرئيس السابق محمّد علي العابد (من سورية)، وسليمان ناصيف صاحب مشروع استثمار مياه الحمّة (من لبنان).
لكن السلطات الاستعمارية البريطانية هدّدت وشدّدت على هؤلاء جميعاً بعدم المساهمة في الشركة الجديدة. وباءت محاولات الحاج أمين الحسيني بالفشل في إقناع محمّد علي جناح وشوكت علي (زعيمَي مسلمي الهند) بدعم الشركة العتيدة. وكانت المهلة الممنوحة لإنجاز عملية تجفيف مستنقعات الحولة (وهي ستّ سنوات) قد شارفت على الانتهاء، ولم تتمكّن الشركة تحت التأسيس من تنفيذ مهماتها. أمّا سلطة الانتداب البريطاني فكانت تنتظر نهاية المهلة لإلغاء الامتياز من دون أيّ تعويض.
وفي نهاية المطاف اضطر سليم علي سلام والمساهمون الآخرون في سنة 1934 إلى التخلّي عن الامتياز لحكومة الانتداب البريطاني لقاء سندات تعويضية تُدفع على امتداد سبع سنوات. لكنّهم اشترطوا أن يتملك الفلاحون الفلسطينيون الأراضي التي كانوا جفّفوها (22 ألف دونم). وبالفعل، جرى تسجيل تلك المساحات بأسماء فلاحيها. لكن، في عام 1948 استولت "هاغاناه" على تلك الأراضي بالقوة، وطردت الفلاحين منها، وبدأ طور جديد من الصراع العربي – الإسرائيلي.
هذه هي حكاية أراضي الحولة من دون شوائب ومن غير الشائعات المسمومة والاتهامات المعلومة. وللأسف، ما زالت الوقائع الصحيحة، حتى بعد تسعين سنة، متوارية خلف المزاعم التي نجحت في إهالة الركام والأتربة على الحقائق التاريخية.

Related News
ترامب: زيلينسكي ليس لديه أي شيء حتى أوافق عليه
alaraby ALjadeed
11 minutes ago