Arab
إذا كنتَ في موقع إداريٍّ في مؤسّسةٍ عربية، قد ينتقص من صورتك أمام زملاء لك تبرُّمُك من سِيَرٍ مهنيةٍ تتلقّاها باللغة الإنكليزية من متقدّمين لوظائف مطلوبة. وإذا فعلتَها وطلبتَ هذه الأوراق بالعربية فقد تُستقبل فعلتُك هذه بالسخرية أو الاستهجان. تماماً لو تغضب من أن يُكاتبك زملاءُ في البريد الإلكتروني بالإنكليزية، فتُخاطبهم بأنكم جميعاً تعملون في مؤسّسةٍ عربيةٍ في بلدٍ عربي. ...هذا حالٌ ذائعٌ في شركاتٍ وبنوكٍ وإداراتٍ ومؤسّساتٍ وهيئاتٍ، بل ووزاراتٍ أحياناً، في بلادٍ عربيةٍ عديدة، في الخليج والمشرق. أما في الجزائر والمغرب وتونس فنفوذ اللغة الفرنسية هناك لا يجعل لأيِّ كلامٍ عن تبرّمٍ وغضبٍ أيَّ موضع، فمن بديهيّ الطبيعيِّ، غالباً (حتى لا تُنعت هذه السطور بالتعميم المطلق) أن يتكاتب المدراء والموظفون بالفرنسية. ولنقلها بصراحةٍ مطلقةٍ هنا، إنّ استصغار بعض العرب (أو كثيرين منهم) لغتهم أمرٌ يمسّ الأمن القومي العربي، على ما صحّ قولُ من قال هذا في بلدٍ خليجيٍّ تعثُر فيه بصعوبةٍ على لغةٍ عربيةٍ سليمةٍ في التداول اللغوي العام، ويستخفُّ مسؤولون فيه بتعليماتٍ حكوميةٍ تشدّد على استخدام العربية في المكاتبات والمخاطبات، وفي تسطير الوثائق والمراسلات، وفي تسميات المنشآت والمحلّات (والبقالات!) في البلد. ولمّا كان وضع حماية العربية في بلادِها مسألةَ أمنٍ قوميٍّ في محلّه تماماً، وليس فيه مغالاةٌ أو شططٌ أو تزيّدٌ أو مبالغةٌ أو غلوٌّ (... إلخ)، فإنّ قضية اللغة العربية في بلادها تصبح قضيةً سياسيةً بامتياز، فأهل الحكم والسلطة مؤتمنون على التربوي والثقافي والوجداني في شعوبهم، وإذا شاع في المجتمع، سيّما في النخبة والشباب وطلاب الجامعات والعاملين في التقنيات والعلوم، إحساسٌ بدونيّة لغتهم فهذا شديد الخطورة، ويستدعي استنفار جهودٍ مثابرة، ومركّبة، تبادر إليها وزاراتٌ معنيةٌ وهيئاتٌ مدنية، ليس بالعمل على إصدار تشريعاتٍ مُلزمةٍ فحسب، بل أيضاً برقابةٍ دؤوبةٍ مرفقةٍ بعقوباتٍ بشأن من يتجاوز القوانين، ولا يحترم اللغة العربية.
طيّبٌ كل هذا التغنّي بالعربية وجمالها، ومحمودةٌ الروح الدفاعية عن حيويّتها، وقد لوحظا في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية أخيراً. غير أنّ هذا الفعل الموسميّ (والتقليديّ) لا طائل منه أمام التعامي عن وجوب قوّة إجرائيةٍ مسلّحة بالقانون، تعمل على إنقاذ لغة الأمة من التدهور الذي تقيم فيه، سيّما بفعل الشعور الواسع بزهو كثيرين فينا وهم يعتمدون الإنكليزية لغة تخاطُبٍ ومكاتباتٍ بينهم. أما تلك الدعاوى عن العربية أنها ليست لغة العصر، وعمادُه العلم والتقنيّات المتسارعة، فذلك صحيحٌ من جهة أن حضور أي لغةٍ، في أي عصر، هو انعكاس حضور الناطقين بها في منجزاتِه، العلمية والمعرفية والفنية. وحال العرب معلومٌ ولا مدعاة للّتّ والعجْن فيه. وهذا القول نفسُه غير صحيحٍ من جهة أن محاولات جدّية لم يُبادر إليها من أجل اختبار هذه الفرضية، كما أن بيئات الإنتاج العلمي والتقني في بلادنا العربية الزاهرة لا تتحقّق فيها الشروط الكافية، المادّية وغيرها، لنرى إنجازاتٍ كبرى في الطب والفيزياء والكيمياء والرقميات والخوارزميات (أمثلة). والعلماء العرب الذين أحرزوا جائزة نوبل، وغيرها من جوائز عالمية، يزاولون اكتشافاتهم واختراعاتهم ومساهماتهم العلمية في معامل الغرب وجامعاته ومختبراته.
ينضاف إلى هذا التحدّي الثقيل أنّ "نصيب اللغة العربية من التطوّرات التقنية الراهنة، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي، ما يزال محدوداً"، على ما توضح الورقة المرجعية للمؤتمر، بالغ الأهمية، الذي ينظّمه اليوم معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، في العاصمة القطرية، بعنوان "الذكاء الاصطناعي وخصائص اللغة العربية"، ما يُعزى إلى عوامل عدّة. وأن يستشعر القائمون على المعجم الذي ينعقد اليوم حفلُ اكتماله الأهميّة الكبرى لهذه المسألة فذلكم ممّا يُضاعف من القيمة العالية لأدوارٍ، لا تزيّد في وصفها بأنها حضارية، يؤدّيها هذا المعجم الذي يفوق معاجم تاريخية للعربية سابقة إحاطةً وشمولاً واتّساعاً. ويعرّف هذا المنجز العظيم بحياة كل مفردةٍ بالعربية، بما لها ولظلالها وجذورِها وتصريفاتِها من تاريخ حيٍّ وممتدّ. الأمر الذي من بالغ الضرورة أن يعرفه العامّة والخاصّة منّا، نحنُ أهل هذه اللغة وناسُها، وهي التي تنسبنا إلى أمّتنا، لساناً ووجوداً، ما يُلزِم بعدم التسامح مع كل تبخيسٍ منها واستضعافٍ لها، على ما هو جارٍ بنشاطٍ في حياتنا العامة... وهذا شنيعٌ وسمجٌ وبالغ الخطورة، ومرفوضٌ ومرذول.

Related News
الذهب يتجاوز كل التوقعات في مصر.. ما سعر عيار 21؟
al-ain
24 minutes ago