Arab
قلتُ لها مراراً وتكراراً إنّها فتاةٌ خائبة، لأنّها، كما يقولون، تتعلّق بأحبالِ الهواءِ البالية، وأحبالُ الهواء يُقصَدُ بها المستحيل. ولكنّ مرآةَ الحُبّ عمياءُ، بل صمّاءُ وبكماءُ. وها أنا أستشهدُ بالأمثال الشعبيّة للمرّة الثانية، لكي أستطيع أن أصفَ حالها، وهي تحبّه بسذاجةٍ وتمضي سنواتِ عمرِها في انتظار ما لا يأتي، حتّى جاءت الحرب، فوَضعتِ الحقيقةَ أمام عينيها؛ وهي أنّها أحبّتْه من طرفٍ واحد، أو أنّه أتقنَ خِداعَها حتّى أوهمَها بأنّه يحبّها، وعليها أن تحتملَ ظُروفَه وتنتظره. والحقيقةُ أنّها انتظرتْ ما لا يأتي حتّى ضاع عمرُها.
تلك القصّةُ التقليديّة حين نفتح عيونَنا على ابنِ العَمّ أو الخال. وقد فتحت عينيها على ابنِ خالها وأحبّته. وكانت أمُّها تُدعى "سِتَّ إخوتها"، فهي الأختُ الوحيدةُ لأشقاءٍ ستّة، ولذلك لم يتوقّفوا عن العناية بها رغم ضيق حالِ بعضهم، وظلّوا لا ينقطعون عن زيارتها حين أصبحت أرملة، ولم يَبقَ لديها من أبنائها سوى ابنةٍ واحدةٍ لم تتزوّج. وكانت تضعُ حُججاً واهيةً أمام كلِّ مشروعٍ للزواج، ولكنّها في الواقع كانت تُحبُّ ابنَ خالها الذي يكبرها بأعوامٍ قليلة. وكان يأتي في زيارةٍ لبيتهم القرميديّ بصحبةِ أبيه، فيقف إلى جواره ويُلقي نظراتٍ سريعةً نحوها وهي تهبُّ لتقديم واجب الضيافة للخال. ولكنّ تلك النظرات كانت كفيلةً بأن تُوقِعَها في شَرَك الحُبّ مُبكّراً، ولم تعد ترَى أحداً غيره، بل إنّها بدأت تصنعُ له الأعذار وهو يتزوّج بأخرى ويصبح أباً لعدّة أطفال، وتنتظر… حتى طال الانتظار.
في اليوم الذي ماتت فيه أمُّها، وأصبح البيتُ فارغاً إلّا منها، لم تسألْ نفسها ماذا ستفعل. ولكنّها تعلّقت بوعدٍ سريعٍ منه، وهو يقدّم لها واجب العزاء، كأنّه يقطع عليها أيَّ مشروعٍ لما تبقّى من عمرها وقد قاربت الأربعين. فقد قال لها، وهو يحاول أن يُخفِض صوتَه كي لا يسمعه والداه، وفيما كان يتظاهر بأنّه تَلَكَأَ أمام باب الخروج ليُحكمَ رباطَ حذائه، قال باختصار: "سوف أتزوّجك قريباً".
ولم تكن تعرف، لفرط سذاجتها، أنّه يُحكم طوقَ حبِّه الوهميّ حول عنقها كما يُحكم رباطَ حذائه. وطارت مع كلماته الأخيرة التي كانت مطّاطة، ولكنّها صدّقتها، وظلّت تنتظر أن يفيَ بوعده، خصوصاً بعد أن تغيّرت ظُروفُها فأصبحت وحيدةً في بيتٍ فارغ، وفي مجتمعٍ ضيّقٍ يضع مثيلاتِها تحت مِجهر المراقبة طوال الوقت. ولم تحسب سنواتِ عمرِها التي ضاعت وهي تنتظر، بل بدأت تبني الأحلام انتظاراً ليومٍ سوف يفي فيه بوعده ويتزوّجها. وقد أسرّتْ لها صديقاتُها المقرّبات بأنّه أصبح يعيش في بحبوحةٍ من العيش؛ فهو يمتلك سيارةً فارهةً وبيتاً واسعاً، وفوق ذلك كله تشغل زوجتُه منصباً مرموقاً في مؤسسةٍ كبرى. لكنّه كان يُضيف لها في كلّ مناسبة، وإن تباعدت تلك المناسبات، أنّه لا يشعر بالسعادة، وأنّ زوجته مشغولةٌ عنه، إضافةً إلى تغطرسها وتعاليها عليه.
لم تكن تعرف أنّه يعيش معها إحساسَه الذكوريَّ بالسيطرة، ولكنّ الحرب حين جاءت أفقدته كلَّ شيء، وجعلته قابِعاً في خيمةٍ مجاورةٍ للتي أقامت فيها مع أصغرِ أخوالِها، لأنّ لديه بناتٍ في مثل سنّها لم يتزوّجن، إذ آثرنَ رعايةَ والديهنّ حتى مضى بهنّ قطارُ العمر، هناك فقط وضعتْها الحربُ أمام الحقيقة. ففي يومٍ حملت الآنيةَ المعدنيةَ العميقة، ذاتَ الأطراف المتآكلة، وفي قعرِها آثارُ الاحتراق من شدّة ما وُضِعت فوق النار لإعداد طعامٍ رديء. في ذلك اليوم، سارت نحو ما يُعرَف بـ"التكيّة" لتملأها بطعامٍ رديءٍ آخر، بعد أن قسمتْ مع بناتِ خالِها دوراً للذهاب إلى هناك. وهكذا، حين كانت يدُها الممتدّة تُزاحِم الأيدي الكثيرة، اصطدمت بذراعه الممدودة. ونظرتْ نحوه وهو يُزاحِم النساءَ والأطفال، بل إنّه دفع ذراعها بكلّ قسوةٍ وعنفٍ ليحصل على الطعام قبلها.
في تلك اللحظة، أدركت الحقيقة: أنّها عاشت في وَهْم، وأنّ حُبَّها قد مات، أيضاً، في الحرب.

Related News
ترامب: زيلينسكي ليس لديه أي شيء حتى أوافق عليه
alaraby ALjadeed
11 minutes ago