Arab
حرص رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا، عبد الحميد الدبيبة، على التوقّف في كل واحدٍ من أجنحة المؤسّسات والمنصّات الإعلامية (13 ليبية وسبع عربية) في جولته في المعرض الموازي في "أيام طرابلس الإعلامية"، الخميس الماضي، واستمع منها لمواجيز عن أشغالها. وفي جناح شركة للإنتاج الإعلامي في ليبيا (مقرّها طرابلس)، تباسط مع مديرها، وهو شابٌّ عشريني، وسمع منه أن كثيراً من منتوجهم انتقادي، فسأل الدبيبة ما إذا يجري انتقادُه، فكان الجواب أنّهم يفعلون هذا، فشكرَه باسماً. ... يحدّثنا زميلٌ، هناك، عن انتقادٍ دوّنه في "فيسبوك" شابٌ في شرق ليبيا الذي يسيطر عليه خليفة حفتر يسخر من واحدٍ من أنجال الأخير الخمسة، واسمُه المنتصر، فخُطف الشاب وعوقب بترهيبٍ وتعذيبٍ أياماً.
ليست التقدمة أعلاه للمفاضلة بين أهل الحكم في غرب ليبيا (طرابلس) وأهل حكم الأمر الواقع في شرق البلاد (بنغازي)، وإنما للإحالة إلى ما يسمعُه زائر طرابلس، من شبابها العامل في الإعلام وتنويعاته، والنشط في الفضاء الرقمي، عن مساحاتٍ طيّبةٍ من الحرّيات الإعلامية. وفي الحوارية معه، في واحدةٍ من جلسات التظاهرة الكبرى، أشار الدبيبة إلى ما يضجّ به "فيسبوك" الليبي من كلامٍ فيه الصحيحٌ وغير الصحيح، وفيه التجاوزاتُ التي تسيء للناس، وجاء على ما تعرّض له شخصياً من تجريح، ثم لم يتّخذ في صدده أي إجراء. وفي تصفّحه أعداد ثلاثة أيامٍ متتاليةٍ من صحيفة الصباح (تصدُر في طرابلس وأظنّها الوحيدة ورقيّة هناك)، لاحظ صاحب هذه المقالة تناول أوضاع معيشيةٍ محليةٍ بلغةٍ انتقادية. وجاء لافتاً أن "المانشيتات" الثلاثة اختصّت بالبنك المركزي، و"بعجزٍ في النقد الأجنبي 8 مليارات دولار"، وتصاعد قيمة الدولار في "السوق الموازي"، وبأن "التضخّم يلتهم المدّخرات"، و"الأسعار تواصل التحليق".
وعندما نعرف أن ستّ قنواتٍ تلفزيونية، يمكن وصفُها رئيسية، عدا عن غيرها محدودة الحضور، فضلاً عن تلفزتَيْن حكوميتَين (رسميتَين وطنيّتَين)، تتوجّه إلى المواطن الليبي، وتتنوّع انحيازاتها واصطفافاتها وخياراتها السياسية (بعضٌ منها يتبع جناحَي صدّام وخالد، نجلَي خليفة حفتر)، بل وتتوزّع مقارّها، في طرابلس والقاهرة وإسطنبول (وعمّان!) مثلاً. عندما نعرف هذا، وكذلك أن منصّاتٍ إعلاميةً عديدةً تنتج محتواها ومضامينها في طرابلس وبنغازي (وفي الخارج) لعموم الليبيين، فإن لك أن تتخيّل مساحات ما يمكن تسميتُه "الكباش" الإعلامي الذي يستهدف الجمهور الليبي العريض، ليشدّه إلى قوىً وتكتلاتٍ قارّة وقوية، ليست في وارد إنهاء الانقسام القائم في البلاد، والذي يُحرز في غضونه حفتر وولداه أنصبة وازنة في شرق البلاد وبعض وسطها وجنوبها.
بمتابعة ما أفضى به الشباب والشابات الليبيون من أهل صناعة المحتوى وإنتاج مضامين متعدّدة في منصّات مختلفةٍ وتقديم البرامج الحوارية (في السياسة والاجتماع والرياضة و...)، في جلسات أيام طرابلس الإعلامية، تتبدّى أمامك لوحةٌ غنيةٌ بالدلالات، أولاها أن هذا الشباب قادرٌ على تقديم مبادراتٍ مبتكرة، ومتمكّنٌ من استثمار ممكنات التطوّر الرقمي وفضاءاته، ويحتاج بيئاتٍ سياسيةً وتشريعيةً وقدراتٍ تمويليةً تساعده على تقديم رؤاه وتصوّراته بشأن مستقبل بلده وحاضره. وقد كانت العروض الحية والنقاشات (والمجادلات أحياناً)، والاستعراضيات بدرجة أقلّ، في المناسبة، من تمثيلات مشهدٍ تواصليٍّ وتفاعليٍّ ليبيٍّ يحتاج أن نتعرّف عليه جيّداً، لنتحرّر، نحن الذين تحتلّ مداركنا صورةٌ عن ليبيا ناقصة، مشوّشة، جاهلة، مطبوعةٌ أحياناً بفوقيّة (فارغة) تجاه هذا البلد وكفاءاته.
تزامنت تظاهرة أيام طرابلس الإعلامية (في دورتها الخامسة) مع انعقاد "ملتقى الشباب للوحدة والسّلام" في واحدٍ من فنادق طرابلس، بمشاركةٍ شبابيةٍ واسعةٍ من الشرق والغرب والجنوب، انتهى إلى بيانٍ، رفضَ "الانقسامات والصراعات السياسية التي استنزفت حقوق المواطنين"، وألحّ على "التركيز على التعليم والمؤسّسات الحديثة والاستثمار في الاقتصاد الرقمي ركائزَ أساسيةً لإعداد أجيالٍ قادرةٍ على المنافسة عالمياً، وبناء دولةٍ خدميةٍ تحمي الحقوق". والذي شاهدناه، في أروقة "ريكسوس" في طرابلس، من تدافع شبابٍ وشابّاتٍ ليبيين، ناهضين وواعدين بعظيم الإنجاز، وبينهم طلابٌ يدرسون الإعلام، شاهدٌ على صحّة الشعار الذي اختير لهذه التظاهرة "ليبيا بعيونٍ متفائلة"، وقد عُدتُ من هناك بما هو أوسع من التفاؤل.
