Arab
أكثر ما يمكن أن يستوقف متابع مباريات كرة القدم، الفرح في وجوه الجماهير. صارت الكاميرات تتطوّر في اصطياد لحظات الفرح والوجوه البشوشة ساعة تعامل اللاعب الحرّيف مع فرصة سانحة وتسجيله هدفاً. هنا ستكون فرحة الجمهور مركز كاميرات التصوير، ومن أكثر من زاوية. وفيما تكون لقطات الحزن عابرةً وسريعةً، نرى النصيب الأكبر من التصوير يكون للفرح من دون منازع. يبدأ الأمر بفرح اللاعبين الذين يتراكضون جهة البطل صاحب الهدف، الذي يركض ناحية الجمهور محاولاً أن يقرّب الحاجز البنائي المرسوم بينه وبينهم، ويرسل الجمهورُ بالهتافات والصرخات الفرحةَ إلى أعلى مستواها. لا تعترف هتافات الفرح بالحواجز المذكورة، بل تتطاير حرّة. نلاحظ هنا أيضاً أن الفرح في اللحظات الأولى يتحول سريعاً إلى ضحك.
في "الضحك"، لا يفرّق هنري برغسون بين الضحك والفرح، بل يراهما متلازمين. لا يوجد فرح من دون ضحك، وإلا كان ناقصاً أو مكظوماً. الضحك يفضح الفرح ويفصح عنه. وملخّص كتاب برغسون أنه ما دامت الحياة في جزء كبير منها مبنية على العبث، فمن الغباء ألا نضحك، أو ألا نقتنص أيّ سانحة ممكنة للفرح المؤدّي إلى الضحك. وكان يعتبر الجدّية المفرطة علامةَ عدم توازن، إذ إن الشخص المتوازن حسب وجهة نظره هو الذي يضحك حتى في لحظات الجدّ، يضحك حتى وهو يعمل. ويرى أن الضحك ليس تلك القهقهات التي تُسمع وتظهر فحسب، بل هناك ضحك تعبّر عنه المشاعر من دون صوت، وأيضاً ما تعبّر عنه العينان واليدان من دون إيقاع.
ولا بدّ أننا مررنا في حياتنا بضاحكين كادحين، لا تفارق البهجة صدورهم، حتى وهم في أقصى جهدهم من أجل جمع القليل من المال لإعاشة أولادهم. أذكر، مثالاً، في طفولتي في بداية السبعينيّات بولاية مطرح، وهي ولاية تجارية ضمن محافظة مسقط، في حارة كهبن حيث كنّا نقيم، وهي حارة جبلية يغلب عليها الطابع العشوائي، وحين كبرنا صرنا نتذكّرها من باب الانبساط والمفارقة الطريفة بعبارة كوبنهاغن، كما سمعت في فاس عبارة سيدي بلجيكا التي تُطلق تفكّهاً على الحي الشعبي سيدي بوجيده المنسوب إلى وليّ صالح ما زال ضريحه منتصباً في هذا الحي القريب من مدينة فاس القديمة وأسواقها الغاصّة، ذات الطابع المهرجاني. في مطرح، أتذكر الوالد سعيد بن سليمان الرحبي صاحب دكّان يحمل اسماً لا يقلّ فكاهة: "دكّان الربح القليل"، هكذا سمّى مأوى بضاعتِه ومعاشِه ومعرضَهما، حين طالبته البلدية بتعليق لوحة عليها اسم للدكّان. الوالد سعيد بن سليمان، الذي لا تفارق الفرحة محيّاه، يتميز ببنية وسيمة مع طول فارع ولحية خفيفة تتفرق من دون ترتيب، ويطوّق جبهته بمصرّ أبيض لُفَّ أيضاً بطريقة عفوية لا يستعين فيها بمرآة كما يحدث لدى موظّفي الحكومة، الذين يقضي بعضهم ساعة كاملة وهو يطوّق رأسه بتنسيق وأناقة، يضمن فيها ترتيب الألوان والأشكال باتّساق فوق رأسه. كان الشايب سعيد بن سليمان يطلق صوتاً عالياً مشوباً بفرح حتى وهو يكلّم طفلاً، ولا يسمح لأيّ منغّص أن يعكّر صفوه الدائم وهو يعمل ويبيع ويزن ويكيل، ويحمل البضائع فوق ظهره ويضعها. وذات يوم وهو في زحمة انشغاله، جاءه ولداه ومعهما شهادات نتيجة امتحان مدرسي، وحين سألهما: هل نجحتما؟ أجاباه بأن أمامهما دوراً ثانياً في مادَّتي الحساب واللغة الإنكليزية، فما كان منه إلا أن أخذهما إلى صاحب دكّان في سوق مطرح، اسمه ثاني بن حبيب، وكان وهو يتقدّم يهتف باسم "ثاني" فيخرج له صاحب الدكّان مستفسراً، فيخبره أن ولديه يبحثان عنه، لأنه مكتوب في شهاداتهم عبارة "الدور الثاني". هكذا فسّرها مستلّاً من الموقف ضحكةً يواري بها خيبة أمله المؤقّتة في ولديه.
بالعودة إلى كرة القدم، وتحديداً بطولة كأس العرب 2025 في الدوحة، التي نتابعها، كان مُفرحاً مشاركة فلسطين وسورية بفريقَيْن منافسَيْن، خصوصاً الفريق الفلسطيني، فقد بدا الحدث شبيهاً بأسطورة العنقاء التي تخرج من الرماد، إذ مرّ البلدان بما يصعب تلخيصه من موت وآلام ودمار في كل مستوى من مستويات الحياة. لخّص جانباً من ذلك المذيع القطري جاسم خالد في برنامجه المجلس بعد مباراة فلسطين والسعودية، وخصوصاً تلك المقدّمة المُؤثِّرة التي ظلّ ملايين العرب يشاهدونها ويوزّعونها بينهم.
