Arab
تعكس إعادة إطلاق ملف الخصخصة في السعودية بأكثر من 200 مشروع بقيمة 800 مليار ريال (نحو 213 مليار دولار) التزام الحكومة برفع حصة القطاع الخاص من الناتج المحلي غير النفطي من 40% حالياً إلى 65% بحلول عام 2030، وذلك تماشياً مع رؤية 2030. وكان وزير المالية، محمد الجدعان، قد أعلن قبل أيام أن المملكة لديها الآن أكثر من 200 مشروعاً مطروحة أمام القطاع الخاص سواء ضمن الطرح أو الدراسة، وأن قيمة المشاريع المطروحة تبلغ 800 مليار ريال.
غير أن هناك انقسامات في تقييم هذه الخطوة بين تفاؤل محسوب بشأن الإطار التشريعي وقلق جدي من تحديات تنفيذية حقيقية تؤثر بوتيرة التقدم. فتقدير مركز أوليفر ويمان، المعني بتحليل السياسات والمؤسسات الحكومية، يشير إلى أن الإطار التشريعي للشراكات بين القطاعين، العام والخاص، وفر للمملكة "قنوات واضحة للدعم الحكومي" تجعلها "وجهة استثمارية موثوقة" للمستثمرين الدوليين، حسب تقرير نشرته مجلة ميد (MEED) المتخصصة في شؤون المشاريع والاستثمارات بالشرق الأوسط.
وحسب التقرير ذاته، فإن الهياكل المؤسسية الجديدة مثل المركز الوطني للخصخصة والشراكات وصندوق البنية التحتية الوطني وفرت "عمقاً محلياً" في التمويل وقدرة على الاستثمار المشترك، فيما أبرزت التقارير الصادرة عن منصة AGSI المتخصصة في تحليل الشؤون الخليجية أن الشراكات لا تقتصر على القطاعات التقليدية مثل المياه والطاقة، بل امتدت إلى التعليم والصحة والنقل والخدمات البلدية.
وعلى صعيد المشروعات الضخمة المعلنة سابقاً، تشير البيانات الرسمية إلى مسارات متعددة. ففي قطاع المطارات حققت المملكة نجاحاً نسبياً من خلال عقد شراكة طويلة الأجل لتشغيل مطار المدينة المنورة التي رفعت قدرة المطار من خمسة ملايين إلى ثمانية ملايين مسافر، ما وفّر عائدات حكومية.
كذلك شهدت المملكة نشاطاً في قطاع الرياضة، حيث أعلنت في يوليو/ تموز الماضي خصخصة ثلاثة أندية كرة قدم، وحققت إنجازاً بحصول مجموعة هاربرج الأميركية على ملكية نادي الخلود، حسب تقرير نشرته وكالة رويترز.
لكن الصورة ليست مشرقة بالكامل في ما يتعلق بالمشروعات الكبرى الأخرى، فقد اضطرت السعودية إلى تأجيل خصخصة مصفاة رأس الخير للتحلية والطاقة عام 2021، وهي تُعتبر من أكبر محطات التحلية في العالم، بحجة استعادة النظر في الاستراتيجية.
وأشارت تقارير أميركية متخصصة إلى أن هذا القرار كان يعكس مخاوف من أن النتائج لم تكن متوافقة مع "أهداف كفاءة الإنفاق الحكومي"، وأن نماذج التسعير المدعومة للمياه لا تترك "مجالاً كافياً للأرباح" لتجعل المشروع جاذباً للقطاع الخاص، حسبما أورد تقدير صادر عن معهد دول الخليج العربية في واشنطن.
وفي قطاع الصحة، استهدفت السعودية زيادة حصة القطاع الخاص من تقديم الخدمات الصحية إلى 65% بحلول 2030، بارتفاع من الوضع الحالي الذي تهيمن عليه الخدمات العامة.
غير أن التقرير ذاته حذر من خطر تكوّن "نظام صحي ثنائي الطبقات"، حيث يحصل الأغنياء على خدمات أفضل وأسرع، بينما يقتصر الآخرون على خيارات محدودة في القطاع العام، ما يمثل تحدياً أمام خصخصة مؤسسات القطاع. أما في ما يتعلق بالقطاعات الحيوية الأخرى، فتشير التقارير إلى تقدم متفاوت.
هيكل اقتصادي شامل
في هذا الإطار، يوضح المستشار في المفوضية الأوروبية لشؤون الحوكمة، محيي الدين الشحيمي، لـ"العربي الجديد"، أن السعودية تعمل على بناء هيكل اقتصادي شامل، يرتكز على مبدأ التنوع ويعظم الاستفادة من كل الفرص المتاحة، ويستند إلى نسق إنتاجي ذاتي يعتمد على التوازن والتماثل بين المكونات الاقتصادية، ويجمع بين المعايير الكلاسيكية والمقاربات التغييرية المتجددة، مع منح الابتكار مكانة الصدارة في سلّم الأولويات الوطنية.
وتمثل الخصخصة عنصراً جوهرياً في هذا الإطار، حسبما يرى الشحيمي، لا باعتبارها أداة مالية فحسب، بل ركيزة مؤسسية تسهم في بلورة الهوية الاقتصادية المستقبلية للسعودية. فهي ركيزة محورية في رؤية المملكة 2030، باعتبارها محركاً رئيسياً لمشاريع النهضة والنمو، ووسيلة لتفعيل حراكات القطاعات عبر تعزيز الشراكات الاقتصادية، وتنمية التحالفات الاستراتيجية، وجذب الاستثمارات النوعية.
ومن خلال تمكين القطاع الخاص والأفراد المؤهلين، تهدف الخصخصة إلى رفع كفاءة تشغيل الأصول وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمجتمع. وهنا يلفت الشحيمي إلى أن الحكومة السعودية ترى في هذا النهج فرصة لتخفيف الأعباء المالية والتشغيلية عنها، ما يتيح لها التفرغ لأدوارها التنظيمية والتشريعية، وتعزيز قدرتها على وضع السياسات التي تضمن سير الاقتصاد على المسار الصحيح وتحافظ على تنافسيته العالمية.
ويؤكد الشحيمي أن تركيز المملكة على الخصخصة لا ينفصل عن هدفها الأوسع المتمثل بخدمة المواطن، إذ تستهدف المشاريع الكبرى، البالغ عددها أكثر من 200 مشروع، إعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع عبر خفض التكاليف على الأفراد والشركات والمؤسسات، وتقديم خدمات أكثر كفاءة وفاعلية، لافتاً إلى أن هذا التحول بدأ يظهر جلياً في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم، فضلاً عن تعزيز اللامركزية الإدارية في البلديات، بما يوسع مساحة المبادرة المحلية ويدعم الحوكمة الرشيدة.
وفي قلب هذا التحول، تبرز تقنيات تحليل البيانات الضخمة وتصنيفها وتصورها أدوات استراتيجية تولد فرصاً استثمارية جديدة، وتفتح آفاقاً أمام الابتكار الذكي، بحسب الشحيمي.
واجهة الأجندة الاقتصادية
يؤكد عضو الجمعية الدولية لأبحاث السياسات الاقتصادية، فاتح بييكلي، لـ"العربي الجديد"، أن ملفات الخصخصة باتت تتصدر واجهة الأجندة الاقتصادية في السعودية مجدداً في واحدة من أكثر موجات إعادة هيكلة الاقتصاد طموحاً منذ إطلاق رؤية 2030، مشيراً إلى أن السؤال الأهم لا يتمحور حول حجم الطروحات، بل حول جودة التنفيذ ومدى التقدم مقارنةً بالمبادرات الكبرى التي أُعلنت خلال العقد الماضي.
ويوضح بييكلي أن بعض المشروعات المطروحة، ومنها مطارات وموانئ ومصانع، تُمثل نموذجاً ناجحاً لإمكانات الخصخصة، إذ بدأ برنامج خصخصة المطارات، على سبيل المثال، بتحويل مطاري المدينة المنورة والرياض إلى كيانات ربحية تحت إدارة خاصة، بينما عززت شراكة "بوابة البحر الأحمر" كفاءة ميناء جدة الإسلامي ورفعت معدلات مناولة الحاويات بشكل ملحوظ.
كذلك حقق بيع مصانع الدقيق في 2021 و2022 عوائد بلغت نحو ستة مليارات ريال، وأدى إلى تحديث القطاع وتنشيط المنافسة في التسعير، حسب بييكلي، الذي يلفت في الوقت ذاته إلى أن بعض الملفات، كالأندية الرياضية والمدارس والمطارات الإقليمية، لم تحقق التقدم المتوقع.
فرغم إعادة إطلاق برنامج خصخصة الأندية الرياضية في 2023 بدعم من صندوق الاستثمارات العامة السعودي، لا تزال إعادة هيكلة الأندية من الفئة المتوسطة تواجه تحديات تجارية كبيرة، حسب تقدير بييكلي.
أما في قطاع التعليم، فقد تقدمت الشراكات بين القطاعين، العام والخاص، في مجالات البناء وإدارة المرافق، لكن الخدمات التعليمية الأساسية ظلت في نطاق إدارة الدولة، وهو ما يعزوه بييكلي إلى "حساسيتها الاجتماعية".
وفي ما يخص القطاعات الحيوية، كالكهرباء والمياه والنقل والصحة، يبين بييكلي أن المملكة تتبع نهجاً محسوباً يهدف إلى تعميق مشاركة القطاع الخاص دون تفويض كامل، وهو ما برز في قطاع الكهرباء بشكل أوضح، حيث حُرِّر جزء من توليد الطاقة، لتشغل شركات منتجة مستقلة حصة متزايدة من القدرة الإنتاجية.
وفي تحلية المياه، التي تُمثل السعودية فيها 22% من طاقة الإنتاج العالمية، يعتمد النموذج السائد في المملكة بشكل متزايد على التمويل الخاص عبر عقود "بناء-تشغيل-تحويل"، حسب بييكلي، لافتاً إلى أن قطاع النقل، ولا سيما السكك الحديدية والخدمات اللوجستية، يبرز بأنه أحد أكثر المجالات جذباً للشراكة، مع توقع أن يموّل القطاع الخاص أجزاءً كبيرة من مشروع "الجسر البري" (Landbridge) وشبكات الشحن.
ويخلص بييكلي إلى أن استراتيجية السعودية بشأن الخصخصة واضحة، وتتمثل بتنويع الملكية وتسريع الكفاءة وجذب الاستثمارات دون التفريط بالسيطرة على الخدمات ذات البعد الاجتماعي الحساس.

Related News
ترامب: زيلينسكي ليس لديه أي شيء حتى أوافق عليه
alaraby ALjadeed
11 minutes ago