Arab
دائماً ما حظيت الأفلام التي تتناول الفنون القتالية، خاصة الملاكمة، باهتمام جماهيري واسع، حتى صنعت لنفسها نوعاً خاصاً داخل السينما، ودفعت ببعض نجومها إلى صدارة المشهد الفني، مثل سيلفستر ستالون. في المقابل، لم تحظَ رياضة الفنون القتالية المختلطة بالقدر نفسه من الاهتمام بوصفها رحلةً إنسانيةً ورياضيةً متكاملةً، بأجوائها وجماهيرها، بانفعالاتها وانكساراتها، بل أيضاً برحلة أبطالها الشخصية من الخفوت إلى النهوض، عبر إعداد الجسد والذهن معاً.
تحكي قصة فيلم "آلة التحطيم" رحلة المصارع مارك كير (دوين جونسون) في عالم الفنون القتالية المختلطة، بتعثّراته الشخصية خلال مسار إدمانه المسكنات، وعلاقته العاطفية المضطربة بحبيبته داون ستابلز (إميلي بلانت)، إضافةً إلى زمالته القتالية مع صديقه مارك كولمان (ريان بدر) خلال مشاركتهما في بطولة العالم باليابان. لا تُقدَّم هذه الرحلة بوصفها سيرةً قتاليةً خالصةً أو تجربةً حماسيةً تقليديةً، بل يمكن النظر إليها باعتبارها رحلةً داخل عقل البطل، في مواجهة عالمه المحيط تحت وطأة حياةٍ صاخبةٍ تحتاج إلى التهدئة كي يستعيد تركيزه.
لا تغيب اللمسات الفنية لسينما المخرج بيني صفدي عن هذا الفيلم القتالي، خصوصاً على مستوى التصوير الذي يستعيد فيه أسلوبه المستخدم سابقاً في فيلمه Uncut Gems، بل يطوّره هنا ليصبح أداةً للتعبير عن مشاعر الصخب والتوتر في عالم مسابقات الفنون القتالية المختلطة. لا يكتفي صفدي برصد الحياة الشخصية لبطل فيلمه، فيذهب أبعد من ذلك بنقل اضطرابات هذا العالم بكامله؛ فبين رحلته مع العلاج من المسكنات وإدمانها، وشكوكه المتنامية في زيف علاقته العاطفية، يعيش البطل حالةَ ضغطٍ نفسيٍّ مستمرٍّ، تتوازى مع الضربات الجسدية التي يتلقاها في النزالات، ليصعد تدريجياً في مسيرته المهنية وقوته الشخصية في آنٍ واحد.
تكتسب العلاقة العاطفية بين مارك كير وحبيبته داون صفةَ المؤثر الأساسي في حالته النفسية، لا بوصفها عنصراً ثانوياً في حياةٍ مكتملةٍ، بل باعتبارها المؤثر الأول في حياته الشخصية، التي يميزها المخرج بوضوح من الحياة الرياضية التي يتعامل معها بحسمٍ شديد. تظهر الخلافات بينهما مؤشراً خطراً على شخصيةٍ غاضبةٍ قد ينفلت سلوكها في أيّ لحظةٍ، في مقابل شخصيةٍ عنيدةٍ تعيش على حافة اندفاعها العاطفي، فتختار ببساطةٍ ألا تبالي، إلى أن تصل إلى نقطة التحوّل الكبرى التي تسبّب له جرحاً عميقاً، قبل أن ترحل.
يمكن توصيف هذا العمل بأنه فيلم أميركي عن حالةٍ ذات خصوصيةٍ واضحةٍ؛ فاختيارات المخرج ومدير التصوير لمواقع التصوير، وكادرات الحياة اليومية لبطل الفيلم، لا يمكن فصلها عن السياق الاجتماعي الأميركي. كما ينجح بيني صفدي في استحضار أحاسيس ومشاعر تسعينيات القرن الماضي، من خلال استخدام قطعات مونتاج تعتمد التقريب (Zoom) الذي يشبه الكاميرات المحمولة في تلك الحقبة، ليحرر الزمن من هيمنة النص، ويعبّر عن خصوصية قصة بطله المنتمية إلى عالمٍ شديد التحديد، هو عالم الفنون القتالية المختلطة.
يحتفي صفدي بعالم الفنون القتالية المختلطة، ويُنشئ عالمه الفيلمي على مقاس هذا الوسط الرياضي الذي يبدو عنيفاً وقاسياً. يخلق حالةً شبه جنونيةٍ من التركيب البصري في مشاهد الجمهور والحلبة، ليضفي على فيلمه طابعاً يكاد يكون وثائقياً في بعض لحظاته. يشرك لاعبين قدامى في التمثيل، ويمنح مساحةً أوسع لدوين جونسون لاستثمار لياقته البدنية العالية وابتكار حلولٍ بصريةٍ قائمةٍ على الجسد. وفي النهاية، لا يمكن اعتبار "آلة التحطيم" (The Smashing Machine) فيلماً عن الرياضة بقدر ما هو فيلمٌ عن الرياضي، وعن رحلته الشخصية من الركود إلى استعادة النشاط.
