Arab
يعود مصطلح "القومية الوطنية المصرية" إلى واجهة النقاش العام مع كل حدث وطني له علاقة بمرحلة تاريخية، حتى لو كان مناسبة ثقافية مثل افتتاح "المتحف المصري الكبير"، وتبرز ضمن النقاش المحتدم الكثير من المفاهيم المتناقضة، والآراء المتباينة، التي تتحول أحياناً إلى صراع لإثبات وجهات النظر، وقد ينتهي باتهامات متبادلة بالرجعية من طرف، أو الافتتان بالغرب من الطرف الآخر.
يرى البعض أن لمصر هوية خاصة، رافضاً نسبة المصريين إلى أي ثقافة أو حضارة، سواء فرعونية "كيمتية"، أو قبطية، أو إسلامية، أو عربية، ويرى آخرون أن مصر لا يمكن بأيّ حال فصلها عن محيطها الجغرافي، وأنها بلد متعدّد الهويات؛ إسلامية عربية ومتوسطية أفريقية، في حين يؤكد فريق ثالث أن مصر بمثابة بوتقة كبيرة انصهر فيها مزيج كبير من الهويات والأعراق والأديان التي تشكل نسيجها الديموغرافي الحالي، والذي يعد تمايز أفراده أحد أبرز سمات تفرده.
ينسب كثيرون مفهوم الوطنية المصرية الحديث إلى المفكر والسياسي الراحل أحمد لطفي السيد (1872-1963)، الملقب "أستاذ الجيل"، الذي صاغ فكرة متكاملة في مطلع القرن العشرين، وتميزت رؤيته بالتركيز على وجود "هوية مصرية خاصة"، بعيداً عن واقع الارتباط العثماني، أو التاريخ العربي والإسلامي.
وصكّ المفكر المعروف بـ"أبو الليبرالية المصرية"، في صحيفته "الجريدة"، شعاره الأشهر: "مصر للمصريين"، الذي أصبح علامة فارقة في الفكر الوطني المصري. وطرح أحمد لطفي السيد هذا المبدأ بالتزامن مع زخم المقاومة المصرية للاحتلال البريطاني، معتبراً أنه يجب أن يرافق التحرّر السياسي تحرّر فكري وثقافي، رابطاً بين الوطنية والحرية الفردية، ومؤكداً أن الوطن الحقيقي هو الذي يكفل حريات أبنائه، وأن التعليم هو السبيل الأساسي لبناء الوطنية الحقيقية، وأن المواطن المتعلم هو أساس بناء الدولة الحديثة.
اعتبر البعض أن الوطنية الإقليمية تتعارض مع القومية العربية
ودافع المفكر الليبرالي الراحل عن اللغة العربية الفصحى لغةً للعلم والثقافة الوطنية، معارضاً دعوات استبدالها بالعامية، أو التركية، أو الإنكليزية، إذ كان يرى أن الوحدة الثقافية واللغوية ركن أساسي من أركان بناء الأمة، وكتب: "اللغة العربية هي لغة القرآن، وهي لغة أهل مصر...".
لكنه دعا أيضاً إلى فصل الدين عن السياسة، من دون معاداة الدين، ومن أقواله الأشهر: "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، مشيراً إلى أن الوطنية يجب أن تتجاوز الانقسامات الطائفية، ومن أقواله الشهيرة: "الوطن للجميع، وليس حكراً على دين أو طائفة".
وقوبلت أفكار لطفي السيد بتباين واضح من المفكرين المصريين، إذ يرى عدد منهم أنه أسّس لمدرسة فكرية مهمة، بينما يرى آخرون أنه انتهج علمانية متطرفة، وانحاز إلى النخبة على حساب العامة.
من بين أبرز التباينات، إشادة الكاتب لويس عوض بالجانب التنويري للفكرة، معتبراً أنها تمثّل تياراً عقلانياً ضرورياً في مواجهة التطرف والجمود، بينما انتقد منظّرو القومية العربية، مثل ساطع الحصري، تلك الوطنية الإقليمية الضيقة التي تتعارض مع المصلحة القومية الأوسع، مشيرين إلى أن فكرة "مصر للمصريين" تجزّئ الأمة العربية. في حين هاجم المفكر اليساري أنور عبد الملك البعد النخبوي، معتبراً أن وطنية لطفي السيد "كانت موجهة للطبقات المتعلمة من دون اهتمام كافٍ بالبعد الاجتماعي والطبقي".
واعتبر المفكر طارق البشري أن مشروع لطفي السيد كان محاولة جادة لصياغة هوية وطنية حديثة، لكنه أغفل البعد العربي والإسلامي، ما أدى إلى نوع من العزلة الثقافية، مشيراً إلى أنه أحدث "قطيعة في التكوين الثقافي القانوني للأمة"، وشرح في كتابه "الحركة السياسية في مصر"، كيف أن التيار الليبرالي استبدل "المرجعية الإسلامية" التي كانت الإطار الجامع للمصريين، حتى تحت الحكم العثماني، بمرجعية قومية علمانية على النمط الأوروبي.
وأوضح البشري أن هذا خلق ازدواجية وصراعاً في الهوية لا يزال مستمراً حتى اليوم بين "تيار الإسلاميين" و"تيار العلمانيين"، وأن الانغلاق داخل إطار "المصرية الضيقة"، والحديث بلغة النخبة الليبرالية حال دون بناء جبهة وطنية عريضة لمواجهة الاستعمار.
بدوره، اعتبر رفعت السعيد أن وطنية لطفي السيد تقدم دروساً مهمة عن التوازن بين الخصوصية والانفتاح، وأنها لم تكن انعزالية، بل كانت تسعى إلى بناء دولة حديثة قوية قادرة على التفاعل الإيجابي مع محيطها، وأكد جابر عصفور أن المشروع الليبرالي لأحمد لطفي السيد يمثل حداثة حقيقية، وكان يمكن أن يجنّب مصر الكثير من التقلبات الأيديولوجية لو استمر تطوره.
على جانب آخر، تبنى سلامة موسى شعار "مصر للمصريين" بحماسة أكبر، وأعطاه بعداً أكثر راديكالية من أحمد لطفي السيد، إذ كان يرى أن مصر يجب أن تقطع مع ماضيها العربي والإسلامي، وتعود إلى جذورها الفرعونية باعتبارها هويتها الأصيلة، قائلاً: "نحن فراعنة قبل أن نكون عرباً"، وأورد في كتابه "اليوم والغد": "مصر يجب أن تخرج من آسيا لتدخل أوروبا"، معتبراً أن الحضارة الأوروبية هي النموذج الوحيد للتقدم، وأن "الارتباط بالشرق يعني التخلف".
تتقاطع رؤى متعدّدة تشكّل اليوم خريطة الجدل عن معنى الوطنية
واتهم موسى فكر لطفي السيد بأنه يمثل مصالح كبار الملّاك والطبقة العليا، ويتجاهل مطالب الفلاحين والعمال، مهاجماً "الوطنية الشكلية" للطبقة الحاكمة، داعياً إلى "وطنية جديدة قائمة على العدالة الاجتماعية والتحرر من الاستعمار الاقتصادي قبل السياسي"، واعتبر الدين شأناً خاصاً يجب فصله عن الحياة العامة، كما ربط بين الوطنية والعدالة الاجتماعية، ودعا إلى تحرير الفلاح المصري من الإقطاع، معتبراً أن الوطنية الحقيقية تتطلب القضاء على الفوارق الطبقية.
في المقابل، كانت انتقادات المفكرين الإسلاميين أقسى، إذ اعتبر محمد عمارة أن تجاهل البعد الإسلامي في الهوية المصرية يفقرها، ويقطعها عن جذورها الحضارية. ووقف الشيخ محمد الغزالي موقفاً معارضاً بالكلية لفكرة "مصر للمصريين"، معتبراً إياها تجزئة للأمة الإسلامية، وانحرافاً عن الهوية الحقيقية لمصر.
ورفض الغزالي بشدة الدعوات الفرعونية، معتبراً أنها محاولة لإحياء جاهلية قديمة، وكتب: "لماذا نفخر بحضارة وثنية، ونتنكر لحضارتنا الإسلامية؟"، مؤكداً أن الهوية الإسلامية لمصر أكثر عمقاً وأصالة من أي هوية أخرى.
ويجادل كثيرون بأن محدودية مبدأ "مصر للمصريين" ظهرت في عدم قدرته على الإجابة عن سؤال العلاقة بين الهوية المصرية والأبعاد العربية والإسلامية، ما يفسر جزئياً تراجع التيار الداعم له لصالح تيارات أخرى مزجت بين الوطنية والقومية والإسلام، في حين أن هوية مصر متعددة الطبقات، فهي فرعونية تاريخياً، عربية لغة وثقافة، إسلامية حضارة وعقيدة لغالبية السكان، ومتوسطية جغرافياً.
رغم تلك المواقف وتبايناتها، يبقى فكر أحمد لطفي السيد الوطني موضوع نقاش حي، إذ يمثل لحظة تأسيسية في الفكر المصري الحديث، والواقع أنه نجح في تأسيس خطاب وطني علماني ليبرالي، بينما يكشف النقد الموجه له عن تعقيدات الواقع المصري، حيث تتداخل الأبعاد الدينية والاجتماعية والقومية بشكل يصعب فصله.

Related News
النصيري يقترب من نادٍ كبير في السعودية
alaraby ALjadeed
6 minutes ago
إصابة ثلاث نساء بجروح في عمليات طعن في مترو باريس
al-ain
8 minutes ago
محمد صلاح يكشف سبب الفوز الملحمي على جنوب أفريقيا
al-ain
17 minutes ago