العدالة والمقاومة في الحكايات الشعبية الأرمينية والعربية
Arab
2 weeks ago
share
في سياق الوعي المتجدد بالتراث الحكائي، تبرز مبادرات معاصرة تعيد الاعتبار للحكايات الشعبية بوصفها نصوصاً حية تتجاوز الزمان، منها كتاب "حكايات أرمينية" (مركز الدراسات الأرمينية بجامعة القاهرة، 2025)، متضمّناً ترجمات لنصوص جمعها أدباء أرمن مثل هوفهانيس تومانيان وفاردان إجيكتسي. تكمن أهمية هذا الإصدار في أنه يقدّم نماذج حكائية تحتفي بالذاكرة المأزومة والنجاة بالبصيرة، خصوصاً قصص التحول والولادة الثانية. هذا التحوّل ذاته يعيد النظر في الفارق بين الحكاية قبل تدوينها، حين كانت كائناً شفوياً حراً، وشكلها المصنّف بعد نسبتها إلى مؤلفين محددين، ما ينقلها من الشفوية إلى التأريخ الثقافي، ومن ملكية الجماعة إلى الوعي الفردي. من بين هذه النماذج تبرز حكاية "طفل الغابة" (باخراتور)، التي تجسّد عمق التجربة الأرمينية وتجعل النجاة عملاً كونياً لا بشرياً خالصاً. تبدأ الحكاية بمهد معلّق بين الأشجار في أعماق غابة كبيرة يحوي طفلاً يتيماً يبكي، ثم تقترب منه غزالة أمّ يثير فيها حنان الأمومة، فتبدأ بإرضاعه وحمايته. هذه الحكاية ليست قصة أطفال فحسب؛ إنها تمثيل رمزي لتجربة الخسارة والبعث. فالولادة الثانية لا تأتي عبر الدم وحده، بل عبر ذاكرة الطبيعة التي تحفظ ما عجز البشر عن حمايته. يتفق هذا المسار مع ما يصفه الناقد أحمد مرسي، المختص في الأدب الشعبي، قائلاً: "إننا – في واقع الأمر – ما نحن عليه من خلال الزمان، وفيه، وبه"، مؤكداً أن الطفل لا ينمو فقط في الغابة، بل ينمو داخل زمن جديد تعيد فيه الحكاية ترتيب علاقتنا بالوجود. العقل المحرر ودهاء الجماعة هذا الوعي الأرميني بالنجاة من خلال البصيرة يتجلى في الإصرار على جعل العقل محور الخلاص، وتظهر صوره في نصوص أخرى لتومانيان وإجيكتسي، حين تبدو حكمة الثعلب والبطل الفطِن تمثيلاً رمزياً لضرورة الوعي بالعواقب وتجاوز المحنة.  للنص الشعبي وظيفة مزدوجة: حفظ الذاكرة ومواجهة محاولات التفكك يتقارب هذا المعنى ويجد صداه في التراث العربي، حيث يصبح الذكاء الشعبي آلية مقاومة للسلطة والقهر. فمن "كليلة ودمنة" إلى حكايات "جحا"، يتجلّى البطل الشعبي باعتباره وعياً جماعياً يواجه الظلم بالمفارقة والدهاء. فالالتقاء بين الحكايتين لا يقتصر على التشابه البنيوي، إذ يتجاوزه إلى وحدة الوظيفة الثقافية، وكلاهما قناة رمزية لتفريغ الخوف وإعادة تنظيم العلاقة بين الفرد والجماعة في مواجهة المجهول. تاريخ قومي مقابل تجربة يومية يتوازى مع تقارب جوهر الحكاية الأرمينية والعربية اختلافٌ جوهري في مصدر المشروعية الرمزية وتصور العدالة، رغم انطلاق كليهما من الوعي بالزمن. ففي الحكاية الأرمينية يحتل التاريخ القومي موقع المركز، حيث يندمج المؤرخ بالنص كما في أسطورة الملك آرا الوسيم التي تُروى لتجسيد فكرة البعث والاستمرار القومي رغم الفناء. تستمد الحكاية الأرمينية شرعيتها من التاريخ لضمان الاستمرارية، وهو ما تفرضه طبيعة تاريخها الطويل من النزاعات وتهديد الهوية. أما في الحكاية العربية، فيتراجع التاريخ لمصلحة اليومي المعيش، ويقدّم مثال "علياء والديب" - وهي حكاية من ألف ليلة وليلة متداولة في الذاكرة الشعبية بمصر والشام - صورة جلية لهذا الانحياز. تدور الحكاية حول فتاة تُختطف، فيصبح إنقاذها مرهوناً ببسالة أخيها الصغير، ودهاء الجدة التي تتنقّل بين بيوت الجيران، تستنطق الروائح والعادات، وتفكّ شفرات الأزقة بحثاً عن الخيط المؤدي إلى الفتاة. العدالة هنا تُستعاد عبر حكمة النساء، وتضامن الجيرة، وحنكة الأطفال، أي عبر خبرة معيشية خالصة تنبع من حركة الناس ومسالكهم اليومية وما يستبطنه المكان من معرفة، ما يضمن البقاء والتكيف. العقل المحرر والدهاء الشعبي وسيلة لمقاومة الظلم بعدالة دنيوية   يتجسد تباين آخر في تصوير المرأة ومفهوم الجزاء. ففي التراث الأرميني تحتل المرأة موقعاً رمزياً وأخلاقياً يرتبط بفكرة الخلاص الروحي، بينما يبرز حضورها في العربية في سياق اجتماعي واقعي، فتكون الأم الحكيمة التي تحقق الخلاص الاجتماعي والعملي بالحيلة. كذلك يختلف مفهوم العدالة؛ فالحكاية الأرمينية تقوم على مفهوم العدل الكوني، حيث يعيد الجزاء التوازن للعالم بميزان متعالٍ. بينما في العربية يتخذ شكل عدالة دنيوية عاجلة يتحقق فيها القصاص داخل المجتمع نفسه، ما يعكس تصوراً واقعياً للعقد الأخلاقي الضمني بين البشر. وعي متجدد في مرآة الحكاية قد تبدو الحكاية الشعبية مجرد ركام من الحواديت القديمة أو ترفاً فولكلورياً لا يلامس الراهن، غير أن هذا التصوّر يكشف عن سطحية فهم الذاكرة الجمعية بوصفها وعاءً للحكي. يبقى القاسم المشترك بين الحكايتين الأرمينية والعربية أنهما فعلان مستمران لمقاومة النسيان، حيث تبرز النصوص الشعبية وظيفة مزدوجة: حفظ الذاكرة ومواجهة محاولات التفكك. لقد مرّ كلا الشعبين بخبرات التهجير والانقطاع، ما جعل الحكاية مساحة آمنة لإعادة بناء الذات وترميم الذاكرة الجمعية.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows