الهُويّات بين الأكثريّة والأقليّة
Arab
1 week ago
share

سُعدتُ، في الأسبوع الفائت، بمشاركة الوزير والدبلوماسي السابق والكاتب المعروف، علي فخرو، في أمسية ثقافية بنادي العروبة في البحرين، اختار لها المنظّمون عنوان "الهويّة الوطنية بين مفهومَي الأكثريّة والأقليّة"، وهو "حديث الساعة"، ليس في هذه اللحظة التاريخية فحسب، وإنما منذ بدأ الانشغال على "تفجير" موضوع الأقليات في العالم العربي، لا لأنها ليست موجودة، ولكن العالم العربي مرّ، قبل ذلك، بمرحلةٍ كانت الأولوية فيها موجّهة نحو بناء الوحدة الوطنية في مجتمعاتنا، لا التعامل معها بوصفها مجموعاتٍ إثنيةً وعرقية ودينية ومذهبية متفرّقة، لذلك كانت الأمسية فرصةً لأن نسلط الضوء، الدكتور فخرو وأنا، على جوانب من الموضوع، منطلقَين في ذلك من خطورة تغليب الهويات الفرعية على الهوية الوطنية الجامعة وتبعات ذلك على وحدة مجتمعاتنا.

إذاً؛ مررْنا بمرحلةٍ نجحت، إلى حدٍّ ما، في الإعلاء من قيمة الوحدة الوطنية في المجتمع، وعيش مكوّناته المختلفة في تسامح وألفة، بعيداً عن أوجه الكراهية والتنافر، قبل أن تشتغل جهاتٌ ودوائرُ بحثيّة وغير بحثيّة على طرح موضوع الأقليات والنفخ فيه، وسندرك الغايات الخبيثة من وراء ذلك حين نتبصّر في ما آلت إليه أوضاعنا العربية من حروبٍ أهليةٍ وتمزّقات وفتن، بدأت في سبعينيات القرن الماضي بالحرب الأهلية في لبنان، وتلاها النزاع داخل الصومال، لتكرَّ السبحة، وتتوالى فصول الفتنة في العراق واليمن وليبيا والسودان وسورية.

لا نريد القول إنّ مسألة الأقليات والتقسيم الناجم عنها بين أكثريّة وأقليّة، أو مجموعة أقليات، في هذا المجتمع العربي أو ذاك، مفتعلة برمّتها، وليس هذا باستثناءٍ عربي، فلا نكاد نرى في العالم كلّه مجتمعاً من لونٍ واحد، أو من رأيٍ واحد، أو من مكوّنٍ اجتماعي – ثقافي – سياسي واحد، فالمجتمعات قائمةٌ على التعدّد والتنوّع تبعاً لتعدّد المصالح والأفكار والمنابت الاجتماعية، والمجتمع السويّ هو الذي تتعايش فيه هذه المكوّنات المختلفة وفق قواعد التسامح والعيش المشترك والمواطنة المتكافئة التي تساوي بين الأفراد في الحقوق والواجبات، فلا يُمنح امتيازٌ لمكوّنٍ بعينه تُحرم منه بقيّة المكوّنات، لأن قادة الدولة المعنيّة ينتمون إليه فحسب، أو يجري تهميش مكوّن آخر، لهذا السبب أو أي سبب آخر. وليسَ سوى المؤسّسات التمثيلية الديمقراطية وسيلةً لتأمين هذا التعايش والإدارة الرشيدة للتناقضات أو اختلاف المصالح، ففي هذه المؤسّسات، من قبيل البرلمانات ذات الصلاحية (لا الصّوريَّة منها) والمجالس البلدية والنقابات، يعمل أصحاب الآراء المختلفة ويتعلّمون بالمراس والتدريب أهمية الوصول إلى التوافقات والمشتركات، فالتجربة تدلّ على أنه كلما جرى التضييق على الحريات والمشاركة السياسية، وإفقار غالبية المواطنين، انحسرت القاعدة الاجتماعية الداعمة للنظام المعني، وزادت الاحتجاجات ضدّه، فيجد ضالّته في الاستعانة بمكوّنات فرعيّة داعمة له، كالعشيرة والقبيلة والمذهب يحتمي بها.

الشواهد في عالمنا العربي تقدّم معطياتٍ نقيضة للمنشود، إذ لعبت بعض الحكومات دوراً بارزاً في تقسيم مجتمعاتها وفق مبدأ الأكثريّة والأقليّة، إما بإذكاء نزعة التمايز والتفوق لدى بعض الأقليات، أو بالعكس؛ تجاهل حقوق هذه الأقليات وتهميشها وتحريض"الأكثريّة" ضدّها، ما دفع بعضها إلى الميل نحو الاستقلال بشؤونها الخاصة، ناشدةً الحماية من خارج الحدود.

إن دور الدولة حاسم ومركزي في كلّ المجتمعات، بما فيها البلدان ذات التقاليد الديمقراطية العريقة في الغرب، حيث للمجتمع قوة متكافئة معها، لكنّ هذا الدور يزداد أهميّة في أحوال بلدانٍ شبيهة ببلداننا العربية، في غياب مؤسّسات المجتمع المدني الحديثة أو هشاشة بنيتها ودورها، واختراق البُنى التقليدية المحافِظة، كالعشيرة والقبيلة أو الطائفة، لبنية الدولة، وفي بعض الحالات تماهيها معها، ما يمكّن هذه البُنى من الحفاظ على قوّتها وتماسكها، ويجعلها في حالاتٍ كثيرة بديلاً محتملاً في المناطق التي لا تستطيع الدولة، بوصفها سلطةً مركزيةً، أن تفرض نفوذها، ما أفرز في بعض الحالات شيئاً من ازدواجية السلطة أو تقاسمها، إذ تبدو الدولة مضطرّةً للتنازل عن بعض مهامّها للبُنى السابقة، وتراعي عدم استفزازها أو استدراجها إلى المواجهة، رغم أنّ هذه الصورة المسالمة للعلاقة قد تنهار تحت ضغط تمادي نفوذ البُنى التقليدية. وفي كلماتٍ أخرى، لم تكن بنية الدولة قد استقرّت تماماً، وترسّخت واحتوت ما هو سابق لها من تشكيلاتٍ وأوجه تنظيم، حين وجدت هذه الدولة غير المكتملة نفسها أمام تحدّيات تستهدف وجودها ذاته.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows