
هذه الزيارة الثانية لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك إلى سورية. صافحت الوزيرة هذه المرّة كل من مدّ يده، وأظهرت نشاطاً سياسياً وإغاثياً بمقابلة مع مندوبين من الساحل السوري الذي كان مسرحاً لموجة عنفٍ راح ضحيتها كثيرون، استمعت خلالها لشهود ممن عاينوا الواقعة، وزارت حيّاً قرب دمشق، وشاهدت عينة من دمارٍ تعرضت له سورية في ظل الرئيس الهارب، ثم أعادت فتح سفارة بلدها المغلقة منذ العام 2012، ومن هناك، تحدّثت عن حرصها على هذه السفارة التي بدت، كما تعكس الصورة، مكاناً مليئاً بالغبار وغير صالح للعمل، فأصرت على وجود عددٍ، وإن كان قليلاً، من أفراد البعثة لتبعث فيها الحياة. وهذه رسالة نوعية إلى قيادة الرئيس أحمد الشرع بأن دولاً أوروبية مستعدّة لاحتضانه، وهذه السفارة الصغيرة إشارة واضحة إلى ذلك، وخاصة لما لألمانيا من شأن مركزي في أوروبا، وإمكانية أدائها دور الوسيط في كثير من نزاعات الشرق الأوسط، ووجود ممثليّة لها في دمشق، مطمئنة لتبقى قريبة من الداخل، بما يؤهلها لتعرف ما يجري بالتفصيل.
وجود وزيرة الخارجية الألمانية في دمشق مرّتين، وقبلها زميلتها وزيرة التعاون الاقتصادي، دليلٌ على نشاط الدبلوماسية السورية بقيادة أسعد الشيباني في الأيام المائة الأولى من تسلم السلطة الجديدة، فقد كان حاضراً قبلها في مؤتمر بروكسل للمانحين، وهو الحضور الأول لممثل حكومي سوري، فقد غاب أي ممثل للنظام خلال التجمعات الثمانية السابقة، وهي خطوة جيدة، تمكّن الشيباني فيها من تقديم سورية الدبلوماسية مجدّداً أمام تجمّع مهتم بها من دول الجوار ودول كبرى أو ذات تأثير إقليمي. وخلال اجتماع بروكسل، التقى الشيباني بممثلي دول مشاركة بوصفه وزيراً للخارجية. ويعد هذا الإجراء، ولو أنه يقتصر على مجرّد اللقاء، تعزيزاً لوجود سورية الدبلوماسي في التجمّعات الدولية الكبرى، وعودة اسمها إلى التداول في أروقة السياسة، وهو الوضع الطبيعي بعد غياب 14 عاماً. والمهم هنا أن التمثيل يأتي بدعم وحماس شعبيين، بعكس حالة النظام السابق الذي فرض نفسه بقوة جهازه الأمني والعسكري.
الجهد الدبلوماسي لسورية في الفترة المقبلة، وهي السنوات الخمس التي أقرّت في الإعلان الدستوري المصادَق عليه قبل أيام، في منتهى الأهمية. وإذا كانت وزارة الخارجية في أيد واعدة، فهناك أذرع دبلوماسية لا تقلّ أهمية عنها، وهي السفارات السورية في الخارج، والوجوه التي ستمثل السياسة السورية الجديدة. ومعروف أن معظم تلك السفارات ما زالت مسجّلة باسم النظام السابق، السفراء وطاقم السفارة بالكامل، وكانت هذه المكاتب الخارجية أعشاشاً لتمرير دعاية النظام وتسويق سياسته القمعية في الداخل، ومن المفترض أن تجرى غربلة متأنيّة لجميع هذه السفارات، وخاصة في الدول الكبرى أو المعنية بالملف السوري، وإعادة هيكلتها بما يليق بسياسة جديدة منفتحة على التعاون مع الخارج والاحترام المتبادل كما يجدر بدولة عصرية، وتجاوز حكم العصابة.
الشأن الخارجي أساسي في حالة سورية التي ما زالت خاضعة لعقوبات عديدة ورثتها من زمن الهارب، مطبقة على مفاصل الاقتصاد الرئيسية، وإذا استمر تطبيقها، فليس من الممكن تجاوز الأزمة على الإطلاق، فمن شأن هذه العقوبات أن تشلّ تقدّم الدولة وتمنعها من ممارسة أي شأن اقتصادي. لذلك، إصلاح العلاقات مع كل الدول الفاعلة على الساحة السورية ضرورة أخرى تُناط بالفريق الخارجي، فقد أحدث نظام الأسد خللاً كبيراً في العلاقات الدولية، ما جعل الشارع الدبلوماسي السوري فارغاً تماماً، وخلت شوارع دمشق من السفارات الدولية، والخطّة التي تسير بها حكومة الشرع حالياً واعدة، وينتظرها حصاد أفضل. ومن المهم اعتماد معايير صحيحة عند تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة المنتظر الإعلان عنها بعد التوافق على برلمان المائة عضو، وخلال هذه الفترة، من المفترض أن يستمر النشاط الدبلوماسي كالمعتاد، والعمل على استقدام سفارات أوروبية أخرى وغير أوروبية.
