لا تُباد مدينة مرتين!
Arab
6 hours ago
share

حرب إبادة كاملة استمرّت نحو عام ونصف أكلت فيها "إسرائيل" من لحم غزّة الحي وشربت من دمها، لم تكن كافيةً لاختبار المحيط العربي والجوار الجائر، لم تكن كافيةً لإمهالهم حتى يتخذوا موقفًا يحترمون به ما تبقى فيهم من إنسانية وكرامة ودين ودم، لا بأس بعد كلّ تلك المحرقة ألا تجرؤ كلّ تلك الممالك والدول، بما ملكت، وهو أكبر مما يملك عدوّها بكثير، أن تُدخل شاشًا طبيًّا ولا كيس قطن لتضميد جراح ذلك المحترق، ولا لقمةً لتسير في جوفه المسكين، ولا شربة تطفئ القليل من نيرانه، جهنم بعضها فوق بعض، لهيب من غارات العدو أشدّ منه لهيبا من برود الأخ! كيف تجتمع كلّ تلك المتناقضات في زمان واحد؟ بل كيف تجتمع كلّ تلك المتناقضات على إنسان واحد بجسدٍ واحد؟ 

لم تكن الدول العربية مستعدّةً لاتخاذ موقف لله وللشعوب وللتاريخ، بل موقف لأنفسهم حتى يمحوا أسماءهم قليلًا، من الكثير المذكورة به في سجلات العمالة والخيانة، لم يقفوا موقف كفار قريش من محمد وهو في حماية بعضهم وجيرة أعداء له، لم يقفوا موقف يهود يثرب حتى إذ كانوا أقلّ منهم عداوة وأخفى مكرًا وخبثًا، لم يقفوا موقف اللاتينيّ البعيد الذي دفع من وزنه العالمي في سبيل نصرة غزّة واستثار الوحش الأميركي والغربي الذي يستعديه أصلًا، ولم يقفوا موقف الجنوبيّ الذي لا يملك معشار ما تملك دولة عربية من قوى، وإنما كلّ ما تملكه تاريخ من رفض الفصل العنصري ومقاومة الاحتلال بأشكاله القبيحة كافة، ولم يقفوا موقف الشماليّ الذي لم تتوقف شوارعه عن المسير يومًا لأجل ملايين المقهورين ومئات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى، ولم يقفوا موقف العربيّ الذي في مخيلة كلّ عربي، ولا المسلم في مخيلة المسلم، كان موقفًا لكم يرِد على دنيا أو دين!

كانت غزة، وما زالت، الشيء الطاهر الوحيد، في مستنقع من بقايا النفايات، والقاذورات، والعبث، والعروبة

شهران كاملا، مرّا وغزّة تستجدي ما تبقى من مروءة وشهامة، فتجد يديها صفرا، ولا تعود حتى بخفَّي حُنين، وإنما حافيةً عاريةً جوعى، وقد فشلت تلك الأمّة المليارية عن إدخال شاحنة وقود وغرف إيواء ولُقيمات غذاء وشربات ماء، حتى عادت الغارة، واشتدّ القصف، وأشهرت الإبادة سيوفها من جديد، وأمطرت المدينة الجريحة بوابل من حديد، والعرب صم بكم عمي فهم لا يعقلون، ولا ينظرون، ولا يشعرون، أنظمة لم ترد في تاريخ، ولا تصدّقها الجغرافيا، ويتقيؤها المنطق كلما حاول أن يعقل ما يشاهد، مدينة عربية يتلاعب العدوّ بحياتها وأرواحها واتفاقاته معها، وبالوساطة وبالسيادة وبكلمة الشرف وبكلّ شيء، ولا أحد يجرؤ أن يقول له كفى، ولا دولة تهدّد نصف تهديد، أو تلمّح من وراء حجاب، إلى الغضب ضدّ المستعمر الأميركي والمراهق الإسرائيلي، أمّة تحتاج إليها أميركا أكثر بكثير مما تحتاج هي إلى أميركا، لكنها لا تدرك إلا الانبطاح أمام السيد، سواء كان اسمه جوزيف أو دونالد أو جورج، المهم أنه يرتدي قبعة من الأزرق والأبيض والأحمر، يمسك كرباجًا، ويجلد الجميع!

أيُّ مدينة تلك التي تُباد مرتين، ولا حراك، أيُّ مدينة تلك التي تُحرق مرتين ولا سطل ماء، أيّ مدينة تلك التي تفعص تحت جنازير الدبابات ولا ينتشلها أحد، بل تُبتَز من أخ ومن عدو، لأنها كانت الشيء الطاهر الوحيد، في مستنقع من بقايا النفايات، والقاذورات، والعبث، والعروبة. 

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows