أدونيس.. أن تتضامن مع مذبحة وتتناسى أُخرى
Arab
7 hours ago
share

في شبه توافق، امتلأت وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقات لسوريين، وعرب أيضاً، على مشاركة أدونيس في الوقفة التضامنية التي احتضنتها ساحة سان ميشيل وسط باريس، الأحد الماضي، مع ضحايا مذبحة الساحل السوري. توافقٌ على عدم نزع صورة الشاعر عن سياق مقولاته وتصريحاته على مدار أربع عشرة سنة سابقة، سواء من جمهور معارضيه الواسع أو المتعاطفين معه.

سياق وقعت خلاله مجازر مهولة قام بمعظمها النظام السوري البائد، وتوزّعت بقيتها أطراف أُخرى، وتمّ توثيق كثيرٍ منها بالصورة والفيديو، ولم تشغل هذه المجازر أدونيس، ولو بعبارة، إنما سجّل بموازاة ذلك جملة مواقف أصبحت من محفوظات الذاكرة السورية المعاصرة، ليس فقط رفضه شعارات الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في 18 آذار/ مارس 2011 ضد الاستبداد، وأمكنة خروجها، إنما لإصراره على أن الدكتاتورية ليست مجرّد بنية سياسية، بل هي أساساً بنية ثقافية واجتماعية، وبذلك هو يرفض ثورة تريد إسقاط الحاكم فحسب.

ربما كان لهذا الجدال بين صاحب "الثابت والمتحول" وبين خصومه أن يعقلن، أو يتم ترشيده على الأقل، في بدايات الثورة، لكنه انزلق إلى منحدر الانقسام الحادّ لأسباب مختلفة، في مقدّمتها تجاهل أدونيس نفسه لمنتقديه أو لأهمية الحوار معهم، غير مكترثٍ إلى أنه يُطلق تنظيراته التي تخلص عادة إلى أحكام قاطعة أو آراء مستفزّة، في فضاءٍ عام يتشارك فيه جميع المواطنين السوريين على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكرية. 

انسدّ النقاش المفترض تأسيسه بين الشاعر وبين النخب السورية

مفارقةٌ أدونيسية تجسّدت في صورٍ كاريكاتيرية، وفائضة عن واقع سوري سقط في دوامة العنف والتطرف، فالشاعر المثقف يواجه الجموع وهو يصنّفها بأنها انحرفت إلى التكفير والأصولية من دون إبداء أي تضامنٍ حقيقي مع مأساتهم، مقابل جماهير غاضبةٍ لا تزال تردّ عليه بالشتائم والسباب. وفي المقابل، انسدّ النقاش المفترض تأسيسه بين أدونيس وبين النخب السورية التي أيّدت إسقاط الأسد، وانغلق على عداء مطلق تفجّر مرة أخرى مع ظهور أدونيس الأخير، دون إغفال تحوّل جديد فرضته الحالة السورية اليوم.

تحوّل يتمثّل في استنكار كثير من النخب السورية التي عارضت النظام المخلوع مجازر الساحل، محذّرين من إعادة إنتاج منظومة الطغيان التي سحقت السوريين منذ انقلاب البعث عام 1963، متشاركين مع أدونيس المشاعر والموقف. وبذلك، يكون احتجاجه في ساحة سان ميشيل حقاً مشروعاً لا ينازعه عليه أحد، إذا ما نظرنا إليه مجرداً، لكن هذا يبدو مستحيلاً كما تدل عليه التعليقات على "التايم لاين" السوري، إذ لم يُدنْ أصحابها مشاركة معارضين آخرين في الاحتجاج ذاته، ومنهم سمير عيطة.

تنشيط الذاكرة على طول عذاباتها وليس استنساب حدث بعينه

وفي محاولة محدودة لعقلنة الخلاف مع أدونيس، كتَب بعض المثقفين عبارة يشير مضمونها إلى تضامنهم مع ألمه وطريقة تعبيره عنه، دون تفويت انتقاد صمته حيال آلام شعبه لنحو عقدٍ ونصف، ولدعوته لحظة سقوط الأسد إلى "تغيير المجتمع" وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي، حيث صرّح حينها أنه كان دوماً ضدّ هذا النظام، لكنه أقرّ بأنه غادر سورية منذ عام 1956، مضيفاً "لذلك أنا لا أعرف سورية إذا ما تحدّثنا بعمق"!

الحاجة إلى الحديث بعمق عن سورية، تستدعي التفكير مليّاً بالانقسام الذي لا يزال يتخذ أشكالاً متعدّدة بعد الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، سواء في النظرة إلى شخص الرئيس الجديد، وبنية السلطة الحالية، أو في شكل الحكم الذي يمكن أن يتفق عليه السوريون. مأزقٌ يتطلب منظوراً آخر لتجاوزه، عبر استحضار جميع الذكريات والحوادث الموجعة في متحف للذاكرة السورية يحتوي أرشيفاً متكاملاً من الصور والتسجيلات والوثائق التي تسجل مرحلة دامت لأكثر من ستّة عقود. الكلّ يتذكّر حتى لا يثأر ويعيد تكرار الجريمة.

هل يمكن إنشاء متحف الذاكرة بحضور جميع الخصوم، بمن فيهم أدونيس؟ الإجابة تشترط تنشيط الذاكرة على طول عذاباتها وليس استنساب حدثٍ بعينه، وبناء انحيازات وأهواء تقصي ما يقابلها، وأن يتوافق المستذكرون على إدانة الجريمة مهما كان مرتكبها ومحاسبة كل من تسبّب بها، ويعضّوا على الجرح الذي قد ينفتق في أية لحظة.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows