
فجّر طرح الحكومة المصرية ثالث أكبر بنك حكومي للبيع لمستثمرين أجانب، موجة تساؤلات واسعة بين الاقتصاديين ووسائل الإعلام، لكشف الغموض المحيط بصفقة البيع وقيمتها والقائمين عليها، والفائز بحيازة بنك القاهرة، الذي تعثّر بيعه للقطاع الخاص على مدار 25 عاماً.
رغم عدم إسناد بيع بنك القاهرة بشكل نهائي لمستثمرين أجانب، تزيد الحكومة صفقة بيع البنك غموضاً، بتسريب مسؤولين تصريحات مجهولة المصدر، تؤكد إجراء مفاوضات مع بنك الامارات دبي الوطني، للاستحواذ على حصة الدولة في البنك، خلال 45 يوماً، بقيمة تتجاوز مليار دولار، لافتة إلى وجود خطة موازية لطرح البنك في البورصة المصرية، في حالة عدم تلقّي عرض مالي مناسب من المستثمرين الاستراتيجيين، خلال الربع الثاني من العام الجاري 2025، مع تعيين مستشار مالي للإشراف على عملية الطرح.
يظهر الغموض المصاحب لصفقة بيع البنك دلائل على أن الحكومة عازمة على إتمام صفقة تعثر تمريرها سابقاً، بسبب الرفض الشعبي ومخاوف السياسيين والاقتصاديين، من خطورة تفريط الحكومات المتلاحقة في البنوك والشركات الرابحة، التي تدعم إيرادات الموازنة العامة، وتمول برامج التنمية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.
ضعف المقابل المادي
ثارت مخاوف لدى الاقتصاديين من بيع بنك القاهرة في إطار صفقة لا تعكس القيمة الحقيقية للبنك، الذي يمتلك أصولاً وودائع ضخمة، وتغول الاستثمار الأجنبي في امتلاك البنوك العامة والمحلية، بما يؤهلهم للسيطرة على القطاع المصرفي، بينما يحذّر مستثمرون من عدم التزام الحكومة بطرح عملية البيع في مناقصة دولية، لضمان الشفافية وتحقيق أعلى عائد ممكن للدولة.
أدى تجاهل الحكومة عروض شراء البنك من قبل مؤسسة كويتية والسير قدماً مع البنك الإماراتي، من دون معالم وأسباب واضحة للصفقة، إلى مخاوف سياسيين من تكرار تجارب سابقة لبيع أصول الدولة لمستثمرين أجانب من دون تحقيق الفائدة المرجوة من عمليات البيع، على الاقتصاد، وتشديدهم على ضرورة وجود إجراءات شفافة تحافظ على الأصول العامة، ووضع قواعد شفافة للبيع تضمن مصلحة الاقتصاد. تبرر الحكومة بيع بنك القاهرة، برغبتها في جذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط سوق المال وزيادة السيولة في البورصة.
تروج الحكومة أهمية بيع بنك القاهرة وتخلّصها من بنوك الاستثمار والمصرف المتحد وحصة الأغلبية في بنك الإسكندرية، في جذب مستثمرين أجانب قادرين على ضخ سيولة جديدة، تنشط سوق المال، وخبرات تعزز كفاءة الإدارة، قادرة على تطبيق المعايير الدولية بالقطاع المصرفي، بما يؤدي إلى تحسين جودة الخدمات المصرفية وخفض تكاليف التشغيل، وزيادة الابتكار في المنتجات البنكية، وتقليل العبء عن الموازنة العامة، ما يوفر السيولة لدعم مشروعات التعليم والصحة والبنية التحتية.
تحصيل ما بين مليار و1.2 مليار دولار
قال رئيس هيئة الرقابة المالية السابق شريف سامي لـ"العربي الجديد" إن صفقة بيع كبيرة على غرار "بنك القاهرة" ستتم وفقاً لمبدأ "تحقيق أكبر قيمة مضافة" يلتزم المستثمر بدفعها للدولة، سواء كان المستثمر مصرياً أو خليجياً أو أجنبياً، مؤكداً ضرورة وجود بنوك ومؤسسات مالية تتولى دراسة الصفقة من كافة جوانبها، لتحقيق الوقت المناسب للطرح وأعلى عائد وفقاً لسيناريوهات عديدة، تتولى الحكومة المفاضلة بينها.
يشير سامي إلى أن الجهات المشرفة على الطرح، لديها القدرة على الإحساس بنبض السوق واتخاذ الإجراءات الكفيلة بنجاح الصفقة، حتى تجنب القائمين عليها أي تبعات قانونية وسجلها أمام التاريخ. وبينما أكدت مصادر لـ"العربي الجديد" أن عملية طرح بنك القاهرة تحتاج إلى تقدم الحكومة بطلب إلى الهيئة العامة للرقابة المالية للموافقة على الطرح، بعد أن انتهت المهلة التي حصلت عليها لطرحه من قبل في 31 مارس 2023، قال سامي إن هذه الموافقة عمل إجرائي بحت، يمكن تجديدها بسهولة، بما لا يحول دون إتمام الصفقة في الوقت الذي تحدده الجهات المشرفة على الطرح.
تستهدف الحكومة تحصيل ما بين مليار و1.2 مليار دولار من بيع 45% من أسهم البنك، يعتبرها خبراء قيمة متراجعة لحصة الملكية العامة، التي يمثلها بنك مصر، الذراع المالية المهمة للدولة في قطاع البنوك، بعد البنك الأهلي، الذي يستحوذ على نحو 60% من تعاملات البنوك المحلية. يؤكد اقتصاديون أن تراجع قيمة تقييم البنك، لا علاقة له بتدهور أصوله وأرباحه، بل لعوامل خارجية تتعلق بالبيئة الاقتصادية وظروف السوق، مبينين أن الإسراع في بيعه في ظروف سوق غير مواتية بسبب التقلبات الاقتصادية والتوتر الجيو-سياسي في المنطقة، يعني خسارة محتملة للدولة، لأن الحكومة لن تحصل على أفضل صفقة من حيث السعر والمشتري.
وفقاً لتقديرات حكومية، بلغت قيم أصول ثالث أكبر بنك حكومي نحو مليار دولار عام 2008، بعائد متوقع من بيع 67% من أسهم بنك القاهرة بمبلغ 1.6 مليار دولار.
يقدّر خبراء قيمة بنك القاهرة حالياً ما بين 2.5 مليار إلى 3 مليارات دولار، مدفوعة بتحسن الأداء المالي للبنك خلال السنوات الماضية، وتحقيقه صافي أرباح بقيمة 3.2 مليارات جنيه عام 2020، و3.6 مليارات عام 2021، ونمو صافي الأرباح في الربع الأول من عام 2024 بنسبة 129%، لتبلغ 2.4 مليار جنيه، بارتفاع 1.4 مليار عن الفترة ذاتها عام 2023 (الدولار = نحو 50.6 جنيهاً).
بيع بنك القاهرة كارثة كبرى
يؤكد الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني أن بيع بنك القاهرة في الظروف الحالية التي تمر بها البلاد والمنطقة، كارثة كبرى وضربة قوية للاقتصاد المستقل، وتعميق للتبعية وخضوع الحكومة لرغبات وتوجهات المستثمرين الأجانب، مشدداً على استفادة الملاك الجدد من الصفقة، مقابل "خراب" الاقتصاد الوطني، باعتبار أن البنك من أهم مصادر التمويل للمصانع الصغيرة ومتناهية الصغر والمشروعات المملوكة للمرأة المعيلة، وورش الإنتاج البيئي والزراعي والصناعي الموجودة في الريف، وتساهم في تدبير فرص عمل أمام ملايين البسطاء ذوي الدخل المنخفض.
يذكر الخبير الاقتصادي لـ"العربي الجديد" أن الحكومة تفرّط في أصل مهم من الأصول العامة، يحقق أرباحاً هائلة، من دون وجود خطة لامتلاك بديل أو توجيه المبالغ المترتبة على الصفقة في شراء أصل آخر، على وجه السرعة، قبل أن تتعرض الأموال الناجمة عن الصفقة، للتبديد أو تتآكل بفعل التضخم، بما يعكس أنها ستعمل على بيع "الدجاجة التي تبيض ذهباً" بدون ضوابط ولا هدف يحقق المصلحة العليا للاقتصاد الوطني.
يشير الميرغني إلى أهمية احتفاظ الدولة بقطاع البنوك، الذي يعبئ المدخرات الوطنية، لتمويل المشروعات العامة وإقراض المصانع والفلاحين والمشروعات التعاونية، بما يغنيهم عن اللجوء للبنوك الخاصة أو الأجنبية، التي رفضت في خمسينيات القرن الماضي، تمويل مشروعات التنمية بالدولة، الأمر الذي دفع إلى تأميم البنوك بعد ثورة يوليو 1952.
يلفت الخبير الاقتصادي إلى بيع الحكومة بنك الإسكندرية، وتحويل بنوك التنمية والائتمان الزراعي إلى البنك الزراعي، وبنك الإسكان إلى مصرف تجاري، بما يحرم المواطنين من التمويل منخفض التكلفة.
مخاطر الاستحواذ على البنوك
يشير خبراء إلى مخاطر استحواذ جهات أجنبية على حصص كبيرة في البنوك المصرية، بما يؤدي إلى سيطرة خارجية على السياسات المالية والائتمانية في البلاد، والتأثير على الأمن القومي الاقتصادي، مع إهدار القيمة الحقيقية للأصول، في صفقات لا تعكس صفقات البيع الحقيقي للبنوك، حيث يجري بيعها بأقل من قيمتها العادلة.
يعتبر خبراء إسراع الحكومة تجاه بيع بنك القاهرة، مؤشراً على عمق أزمة السيولة الدولارية، مدفوعة بارتفاع الديون الخارجية وزيادة تكلفة الاقتراض بسبب ارتفاع الفائدة، مع حاجة الحكومة لموارد مالية تسد العجز المزمن في الموازنة وخدمة الديون، وارتفاع واردات الغاز الطبيعي ومنتجات النفط، بعد أن شهدت البلاد تراجعاً حاداً في إنتاج الآبار المحلية، مع زيادة الاستهلاك المحلي للكهرباء والمحروقات.
وفقاً لاتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي، تستهدف الحكومة جمع 5 مليارات دولار من بيع حصص في شركات حكومية قبيل نهاية يونيو 2025. يقضي الاتفاق بتقديم الصندوق قرضاً بقيمة 8 مليارات دولار، مقابل التزام الدولة بإجراء إصلاحات هيكلية في الاقتصاد، ترتكز على طرح بيع بعض البنوك والأصول الحكومية على القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد. مع استمرار أزمة السيولة، وعدم وجود خطة بديلة تضمن توفير النقد الأجنبي بعيداً عن الاقتراض وبيع الأصول العامة، تخشى الحكومة من تأجيل البيع بعد إعلان نية الطرح، بما يضعف ثقة المستثمرين في خطط طرح الأصول العامة للبيع، التي تضم أكثر من 50 شركة وبنكاً، حتى عام 2027.
تتجه الحكومة إلى منح البنك المملوك للدولة للإمارات التي توطدت علاقاتها مع مصر، مدفوعة بالاستثمارات الضخمة، التي وجهتها لشراء مدينة رأس الحكمة بقيمة 35 مليار دولار، أنقذت الاقتصاد الهش من الوقوع في دائرة الإفلاس المالي عام 2024، تزامنت مع استحواذ الشركات الخاصة والمملوكة لصندوق الثروة السيادي بدولة الإمارات على العديد من المشروعات بصناعة الأسمدة والبتروكيماويات ومؤسسات مالية وفندقية وسياحية ومساحات شاسعة من الأراضي الزراعية لإنتاج القمح والحاصلات الزراعية.
ظل بنك القاهرة هدفاً لأكبر مقرض بدولة الإمارات (بنك أبوظبي الأول) منذ عام 2022، الذي استحوذ على عدة مؤسسات مالية مصرية مؤخراً، ويمتلك البنك 124 فرعاً محلياً وستة فروع بالدول العربية وفرعين بدول "الكوميسا" بقارة أفريقيا.
شهد بنك القاهرة عدة محاولات لبيعه ضمن مشروعات "الخصخصة" التي شرعت حكومة كمال الجنزوري في عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، في الأخذ بها عام 1997، وتعطلت مع مرور مصر بأزمة اقتصادية أطاحت حكومة الجنزوري في أكتوبر 1999، إلى أن أعادت حكومة أحمد نظيف السابقة طرحها، ضمن صفقات بديلة، بدأت أولاها ببيع 80% من أسهم بنك الإسكندرية لبنك ساو بالو الإيطالي، في أكتوبر 2006، وسمحت لمؤسسة التمويل الدولية بشراء 9.75% من حصة البنك الإيطالي، لتصبح ملكية الدولة 20% في البنك الذي تأسس عام 1957.
أعادت الحكومة طرح بنك القاهرة للبيع رسمياً مطلع 2008، سرعان ما تعثرت بسبب الأزمة المالية العالمية، الأمر الذي دفع الحكومة إلى إلغاء صفقة للبيع كانت في مراحلها النهائية مع مستثمرين مصريين وعرب، خوفاً من تراجع القيمة السوقية للبنك.
رصدت "العربي الجديد" محاولة الحكومة طرح البنك للبيع بجدية، ثماني مرات متتالية، وتراجعت في اللحظات الأخيرة، منذ بدأ التعويم الأول للجنيه عام 2016، بسبب الظروف "غير المواتية".
يقترح خبراء طرح جزء من أسهم البنك في البورصة، وفتح المجال للبيع للمستثمرين المصريين أولاً، لتشجيع رأس المال الوطني على الاستثمار في البنوك، مع احتفاظ الدولة بحصة سيادية، تضمن لها حق الرقابة، وعمل توازن بين الاستثمار الخاص والحفاظ على المصالح الوطنية، مع العمل على إعادة هيكلة البنوك الحكومية وتحسين إدارتها من دون الحاجة إلى البيع الكامل أو الجزئي.

Related News


