
يعاني الأطفال في قطاع غزة آثاراً نفسية قاسية جراء العدوان الإسرائيلي الذي عايشوه، ومع تدمير المدارس يصبح اندماجهم التعليمي صعباً.
يُواجه الأهالي في قطاع غزة صعوبة بالغة في إعادة دمج أطفالهم في رياض الأطفال والمراحل التعليمية الدنيا، بفعل الآثار النفسية السلبية التي يعانون منها جراء حرب الإبادة الإسرائيلية التي امتدت على مدار أكثر من 15 شهراً، والتي غيّبتهم قسراً عن مقاعد الدراسة وحرمتهم حقهم في التعليم. وظهرت على الصغار الذين عادوا إلى رياض الأطفال التي افتتحت أبوابها قبل أيام قليلة سلوكيات سلبية ما بين العدوانية والخوف وعدم وجود دافع للتعليم.
وتعزو المعلمات الأمر إلى الآثار النفسية التي يعاني منها الأطفال في ظل الظروف الصعبة التي عاشوها خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع، والمشاهد المروعة جراء القصف والقتل والترويع، بالإضافة إلى إجبارهم على النزوح برفقة عائلاتهم والسير أمام دبابات الاحتلال العسكرية. يضاف إلى ما سبق فقدان العديد من الأطفال والديهم الاثنين أو أحدهما.
وعادت رياض الأطفال في قطاع غزة إلى فتح أبوابها مجدداً، وبدأت تستقبل الأطفال في خطوة لإعادتهم إلى مقاعد الدراسة بعد الانقطاع القسري بسبب الحرب، رغم القصف والدمار اللذين طاولا غالبية رياض الأطفال والمدارس الحكومية والخاصة، ما يعكس رغبة الأهالي في تعويض أطفالهم ما فاتهم من التعليم خلال الحرب.
وتقول والدة الطفل عمر، خلدية عبدو (5 سنوات): "أُصيب طفلي بحالة نفسية صعبة بسبب الحرب، خصوصاً بعدما تعرضنا لحصار استمر 21 يوماً، وأصبح يعاني من الخوف الشديد ويصرخ بشكل متواصل، خصوصاً عند رؤية مشاهد عنيفة أو شجارات، وبات يتلعثم في الكلام". تضيف لـ"العربي الجديد": "توجهتُ إلى مستشفى الوفاء للتأهيل من أجل متابعة حالة طفلي وإعادة تأهيل النُطق لديه، علماً أنه لم يكن يعاني من أية أمراض أو أعراض نفسية قبل الحرب، وكان ذكياً وسريع التعلّم والاستجابة".
وتوضح أنها "سجّلت طفلها عمر في روضة لإعادة دمجه في التعليم، لكنه يعاني بطئاً في الكتابة والاستيعاب بسبب الخوف الذي ما زال يسيطر عليه". تضيف: "أضطر إلى استخدام أسلوب التحفيز معه ومعاملته بطريقة خاصة، من أجل تشجعيه على التعليم. لكن حتى الآن استجابته ضعيفة في التحصيل العلمي". وتأمل أن تتحسن حالة طفلها النفسية من خلال الأساليب التي تستخدمها المعلمات في الروضة، لإعادة دمجه في التعليم من جهة والتعامل بشكل أفضل مع المُحيط الذي يعيش فيه سواء العائلة أو الأقارب من جهة أخرى.
الحال نفسه يعيشه الطفل عبد الرحمن عايش. وتقول والدته فاطمة إنه بات لا يرغب بالذهاب إلى الروضة من أجل استكمال التعليم، علماً أنه كان متحمساً للالتحاق بالروضة ولديه رغبة في التعليم قبل الحرب على غزة. وتوضح فاطمة لـ"العربي الجديد" أن "كثرة النزوح الذي تعرضنا إليه خلال الحرب، وخصوصاً حين توجهنا إلى محافظة خانيونس جنوب قطاع غزة، جعله يعاني خوفاً شديداً بسبب مشهد قصف منزلٍ مجاور لمكان نزوحنا. ومنذ ذلك الوقت، أصبح لديه أزمة قلّلت من رغبته في التعليم".
وتؤكد أنها عادت إلى تسجيله في إحدى رياض الأطفال في محاولة منها لدمجه في أجواء التعليم داخل الفصل مع الأطفال الآخرين، مضيفة أنها تضطر إلى التعامل معه بطريقة مختلفة وتقديم المُحفزات له.
إلى ذلك، تقول أم عبد الله حرز، وهي والدة الطفل زين (9 سنوات): "يخاف طفلي الخروج من المنزل بسبب أصوات القصف التي كان يسمعها خلال الحرب، ما يجعله يرفض التوجه إلى أي مكان تعليمي". تضيف لـ "العربي الجديد": "ظهرت على زين سلوكيات عدوانية، إذ يتشاجر مع الأطفال الذين من حوله، وهذا سلوك لم يكن موجوداً قبل الحرب. وكان من المفترض أن يلتحق بالصف الثالث، لكن مستوى التحصيل العلمي الفعلي له لا يتجاوز الصف الأول الابتدائي".
وتوضح أن زين ملتحق حالياً بالصف الأول ابتدائي في خيمة تعليمية في مدرسة الفرابي، لكنه لا يستطيع القراءة بشكل صحيح ولديه أخطاء إملائية كثيرة، ويعاني صعوبة في الكتابة، علماً أنه من المفترض أن يكون مستواه التعليمي أفضل من ذلك. ينسحب الأمر على الطفلة تولين جمعة (5 سنوات)، التي باتت أكثر انطوائية وترفض الحديث مع الآخرين. وتواجه والدتها أم قيس صعوبة في إقناعها بالالتحاق بالروضة.
وتقول لـ"العربي الجديد": "بعد محاولات عدة لإقناع طفلتي، قبلت الالتحاق بالروضة من أجل التعليم، لكن لا تزال تعاني من الحالة ذاتها، ما أثر سلباً على قدرتها الاستيعابية وتحصيلها العلمي". ومن بين الأسباب، بحسب والدتها، الظروف الصعبة التي عاشتها خلال الحرب بسبب تكرار النزوح، ورؤية بعض المشاهد القاسية من قتل للأطفال والنساء، وتدمير الروضة التي كانت تتعلم فيها قبل الحرب.
من جهتها، تؤكّد المُدرسة في إحدى رياض الأطفال، نرمين غنام، أن التلاميذ في قطاع غزة يواجهون صعوبات في الاندماج في التعليم في الوقت الراهن، بسبب الانقطاع الكبير عن مقاعد الدراسة والآثار النفسية الصعبة التي خلفتها الحرب والمشاهد القاسية التي تخللتها. وتقول لـ"العربي الجديد": "هناك تغيّرات نفسية صعبة ظهرت على الأطفال الذين عادوا إلى مقاعد الدراسة من جديد، أبرزها الخوف والسلوك العدواني وعدم وجود دوافع للدراسة كما قبل الحرب، بالإضافة إلى الخوف من فقدان الأهل على غرار ما حدث مع أطفال آخرين".
وتُبيّن أنّ الأطفال يعانون صعوبات في نطق وهجاء الحروف، الأمر الذي سيستغرق وقتاً أطول في عملية دمجهم كونهم يحتاجون إلى تأهيل نفسي قبل البدء بالمنهاج التعليمي. تضيف "إننا نعمل على إشغالهم بالرسم واللعب والألوان لتفريغ الطاقة السلبية الكامنة في داخلهم"، مشيرةً إلى "وجود مُعوقات تتعلق بعدم توفر المستلزمات الدراسية والقرطاسية، وعدم توفر البيئة الصحية الملائمة للتعليم". تضيف: "أبذل جهوداً كبيرة في اتباع أساليب تغيّر من الحالة النفسية للأطفال من أجل تهيئتهم للاندماج في التعليم من جديد، لكنني أصطدم بعدم توّفر الإمكانات والمستلزمات اللازمة للترفيه عن الأطفال".
من جهتها، تؤكد المعلمة سماح عجور، وهي مديرة روضة "السماح" النموذجية في مدينة غزة، أن العوامل النفسية الصعبة التي يعاني منها الأطفال تظهر جلياً على سلوكهم، وأبرزها الانفعالات الشديدة لديهم وسلوكهم العدواني. وتقول عجور التي تعمل في مجال تعليم الأطفال منذ 20 عاماً، لـ"العربي الجديد"، إنها "لم تمر في مرحلة صعبة كالتي تعانيها حالياً مع الأطفال بعد انتهاء العدوان الإسرائيلي، ما صعّب آليات التعامل معهم وجعل عقولهم تتكيّف مع التعليم كما قبل الحرب".
وتشير إلى أن فقدان بعض الأطفال لأهلهم له انعكاسات سلبية تؤثر على قدرتهم على الكتابة والتعلم، وتجعلهم منغلقين على ذواتهم في كثير من الأحيان ولا يحبون الحديث مع الآخرين. وتوضح أنه يتم التعامل مع السلوك العدواني الذي يمارسه بعض الأطفال عبر التحفيز وتعويض النقص لديهم عن طريق اللعب والمشاركة مع الأطفال الآخرين.
إلى ذلك، تقول المعلّمة في روضة قوس قزح في مدينة غزة، رواء عبد السلام، إنه "منذ عودة الأطفال إلى التعليم قبل حوالي أسبوعين، نعاني بسبب خوف الأطفال وتعلّقهم بشكل كبير بأمهاتهم". وتبين في حديثها لـ"العربي الجديد" أنّ "بعض الأطفال يرفضون ترك أهلهم الذين يصطحبونهم. لذلك، نضطر إلى الحديث معهم وإشغالهم في الألعاب الترفيهية والتلوين لمحاولة تغيير الحالة النفسية التي يعيشونها".
وتروي أنّ أطفالاً يتامى فقدوا أهلهم خلال الحرب يعيشون حالة نفسية صعبة وانطوائية تجعلهم لا يقبلون مشاركة زملائهم في الأنشطة الترفيهية التي تنظم. وتطالب بضرورة دعم قطاع التعليم وتوفير الكتب والقرطاسية عبر تنفيذ مبادرات تقدم خدمات نفسية وتعليمية تخفف عنهم حدة الحالة النفسية التي خلّفتها الحرب.
وكانت وزارة التربية والتعليم في غزة قد أعلنت نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي عن انطلاق العام الدراسي 2024 /2025، في ظل الظروف الاستثنائية والتحديات الجسيمة التي فرضتها الحرب والدمار الهائل والنقص الكبير في الموارد والإمكانات. وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فإن الحرب الإسرائيلية حرمت أكثر من 785 ألف طالب/ة من التعليم، ودمر الاحتلال 132 مدرسة وجامعة بشكل كامل، وألحقت أضراراً جزئية في 348 مدرسة وجامعة طوال الحرب. وتحولت مئات المدارس إلى مراكز لإيواء النازحين الذين كانوا يهربون من شدة القصف الإسرائيلي ظناً منهم أن تلك المدارس ستكون الملاذ الآمن لهم.

Related News


