دمشق بشير البكر
Arab
4 hours ago
share

أظنّه هنري بيرغسون (توفي في 1941) الأميز بين الفلاسفة الذين اهتمّوا بمسألة الذاكرة، وقد ذهبَ إلى أنها نوعان: عاديّةٌ تُكتسب بالتكرار وترتبط بالجهاز العصبي، وأخرى تَختزنُ الماضي ومستمرّة، وتصوّر الحوادث والوقائع، وتحتفظ بخصائص الأشياء وتاريخها، وتشتغلُ في مسارٍ ممتدٍّ ومتقطّع، ولها صلةُ بأنا صاحبِها، من حيث هي متّصلةٌ بالزمن. وهنا يُصبح تعرّف الذات إلى نفسها وإلى العالم واحدةً من وظائف الذاكرة. ... ونصوص الزميل (والصديق بداهةً) بشير البكر الخمسة من يوميّات زيارته دمشق أخيراً، وقد نشرَها "العربي الجديد"، تلتقي مع هذا المنظور. وفي الوُسع، بلا احتراسٍ، نسبتُها إلى ما يجوز تسميتُه "أدب التذكّر". وعندما يكتُب بشير، في واحدٍ من مقاطع سردِه، إنه يحاول أن يوقِظ "الذاكرة البعيدة"، فإنه أفلح، كثيراً، في هذا، سيّما وأنه صحيحٌ قولُ من قال إن الذاكرة دائماً (أو غالباً؟) مرتبطةٌ بالمكان، مقترنان معاً، فما صنعه صاحبُنا، هنا، عندما يدوّن عن زيارتِه عاصمة بلدِه، بعد 45 عاماً من بُعده عنها، فإنه يكتُب عن أمكنةٍ، أو على الأصحّ عن فضاءات دمشق الموزّعة في أمكنتها، وهذه، بداهةً، تضجّ بناسها. يكتبُ لا بعيْني مؤرّخٍ أو سائح أو حتى صحافي، وإنما بعينيْ ذاتٍ مُفردة، بصفتها هذه وحسب، على صلةٍ بهذه الأمكنة التي تقيم في الذاكرة، بخصائِصها وبتاريخها، على ما أتاه بيرغسون. والظاهر أن "العائد" بشير البكر ترك لكتابتِه أن تمضي في مجراها كيفما أرادَت، من دون مُسبقاتٍ، فجاءت النصوصُ طلْقةً، حيّة، يُصادَف فيها الإيجاز والاسترسال، يتداعى فيها حكيٌ ويتوالى، بشروط الحكي، لا بشروط الكتابة الصحافية التي تُؤاخَذُ إذا ما استُفيض بالشخصيِّ فيها. والشخصيَُّ هنا شفيفٌ، ينشغل بالمحسوس وبالشعوريّ، وبالحميميّ الذي يناور بين البعيد والراهن، وبين الراهن والبعيد.

قد يُرى تزيّداً أن نقرأ للكاتب أن "ساحة المرجة في مكانها"، فالطبيعيُّ أن ساحةً لا تُغادر مكانَها، لكن فائض التلقائية في تغذية الكتابة من وعاء الذاكرة جاءَ بهذا، سيّما وأن الإفادة عن "المرجة" تُستَكمل "لم يطرأ عليها تبدلٌ كبيرٌ سوى الاكتظاظ وعدم النظافة". ولكن صالة مسرح الحمراء باقيةٌ في مكانها أيضاً، فيحدُث أن تُغلَق مسارح ودور سينما ومطاعم، وتُستبدل بمشاغل أخرى، وقد "عايَن" بشير بعضاً من هذا، وهو يُحملق في هذا المبنى وذاك (البرلمان وآمرية الطيران و... إلخ)، وهو يمشي في الشام "بلا خريطة طريق"، كما أخبَرنا، في الصالحية وساحة عرنوس وحي القصاع وغيرها. ودمشق، في عُرفِه، "ذاتُ ثراءٍ عمرانيٍّ وتنوّعٍ ثقافيٍّ يُبهجان العين ويُنعشان الذاكرة والخيال". وأتزيّد هنا، فأفترض أن صديقنا ربما جاءَ إلى خيالِه أن الأمكنة في دمشق يحدُث أن تُغادر مطارَحها. ولو فعل لصحّ منه هذا، فقد شاهدَ حواحز ومفارز أمنٍ قد غادرت مواقعها إلى حيثُ لم يعُد لها مكان. لقد شاهد سوريّة التي كانت، لمّا غادرَها برّاً إلى بيروت، ثم يعودُ إليها بعد عقودٍ جواً من الدوحة، قد غادرت إلى التاريخ، فيما سورية الراهنة تتطلّع إلى أن يرفُل شعبُها بالحرّيات، وقد شدّد على هذا، وهو يكتُب "ملاحظاتٍ برسم العهد الجديد"، عنوان النصّ الأخير، في دفترٍ اشتبك فيه التذكّر مع التأمل. وواحدةٌ من أهم ذخائر كل كاتب أدبٍ ذاكرتُه، وثقافةٌ لا تحمي ذاكرة العموم فيها، وذاكرة أمّتها، ولا يقيم أهلُ القرار فيها مؤسّساتٍ مختصّةٍ بهذا، سيعرُج أبناؤها كثيراً، وهم ماضون إلى المستقبل المسيّج بأشواقهم إلى الأفضل والأجمل. ولم يكن يأتي كلاماً كيفما اتفق، نجيب محفوظ، لمّا كتب "آفة حارتنا النسيان"، ولم تكن الأكاديمية السويدية تقول كلاماً فارغاً، وهي تعلن استحقاق الفرنسية آني آرنو جائزة نوبل للآداب (2022)، لبراعتها وشجاعتها في "اكتشاف الجذور والقيود الجماعية للذاكرة الشخصية". وبشير البكر، في يوميّاته الدمشقية، وصل ذاكرته الشخصية، عندما جال في أمكنةٍ واستنطق ماضيها وتأمّل في راهنها، بالسوريِّ العام، في ماضٍ كالح، وفي حاضرٍ مشوّشٍ، وفي مستقبلٍ مأمول.

كتب صاحبُنا إنه كان في حالة فرح، وهو في الطائرة إلى دمشق، "لأني سأتمكّن من زيارة بلدي بعد 45 عاما، وخائفٌ من انكسار الصورة". ... حمى الله سورية من أي انكسار، وهي تُسافر من إرثٍ خانقٍ طويلٍ إلى علاقةٍ صحّيةٍ لأبنائها معها، وقد مُنعوا من هذا، على ما صحّت إشارة بشير، نجّاها الله وطمأن شعبها وزوّارها وأبقاهم في دعةٍ دائماً.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows