

سارة جمال – صفاء عاشور – مصر
خلال الأشهر الماضية، انتشرت على نطاق واسع رواية تتهم حركة حماس بسرقة المساعدات الإنسانية المخصصة لسكان غزة. هذه الرواية لم تصدر عن جهة واحدة، بل تبنتها أطراف متعددة، من إسرائيل والولايات المتحدة، إلى السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى إعلاميين مصريين، كل طرف يوظفها لأهداف سياسية مختلفة، من دون أن تستند إلى أدلة حقيقية أو تحقيقات مستقلة تثبت صحتها.
يرصد التقرير أبرز الادعاءات التي روجت لتلك السردية من جميع الأطراف المذكورة، ويعمل على تفنيدها والتحقق منها من خلال مصادر دولية وأممية، في محاولة لتسليط الضوء على استخدام البروباغندا السياسية في التضليل والتأثير في الرأي العام.
نشر أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، مقطع فيديو على صفحته بفيسبوك في 30 أيار/مايو 2025؛ يُظهر فلسطينيين من أهالي غزة يستلمون حصصهم من المساعدات الإنسانية، فيما بدا أحدهم غاضباً يوجه كلمات قاسية، لكن من دون اتهام مباشر لحماس بسرقة المساعدات. مع ذلك، علّق أدرعي على الفيديو قائلاً إن الحركة تستولي على جزء كبير من المساعدات وتحاول منع الأهالي من تلقيها. اللافت أن هذا الفيديو جاء بعد يوم واحد فقط من إعلان منظمة جديدة باسم “Gaza Humanitarian Foundation (GHF)” عن أول أنشطتها في القطاع، وهي مؤسسة أنشأتها إسرائيل بدعم أميركي في شباط/فبراير 2025. ورغم تقديمها كمنظمة غير حكومية، يقول خبراء بالأمم المتحدة إن GHF مجرد غطاء لأجندات عسكرية وجيوسياسية، تمثل خرقاً صريحاً للقانون الدولي.

ادعاء أفيخاي أدرعي بتاريخ 30 أيار/مايو 2025
لاحقاً، كرر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاتهامات في عدة مناسبات. في 27 تموز/يوليو، وخلال كلمة بثتها وكالة “أسوشيتد برس”، نفى ما أثير عن انتشار المجاعة في غزة، وأكد أن حماس تعكس الحقائق؛ فهي تسرق المساعدات، وتتهم إسرائيل بعدم إرسالها. وفي 2 آب/أغسطس من العام نفسه، وخلال لقاء مع عائلتي أسيرين إسرائيليين، اتهم الحركة بتجويع الأسرى وسكان غزة على حد سواء، ومنعهم من الحصول على المساعدات. وكان ذلك عقب نشر حماس فيديو لأحد الأسيرين يظهره في حالة هزال بسبب نقص المواد الغذائية، ما أثار موجة واسعة من الاحتجاجات ضد نتنياهو. ثم عاد في 22 من الشهر نفسه، ليزعم أن الحركة تسرق المساعدات لتمويل آلتها العسكرية، مشيداً بآليات الإنزال الجوي والتسليم البحري التي تبنتها إسرائيل كبديل، رغم أن وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين “الأونروا” (UNRWA) وصفت أكثر من مرة هذه الآليات بأنها خطرة ومكلفة وغير مستدامة.

ادعاء نتنياهو عن سرقة حماس للمساعدات بتاريخ 22 آب/أغسطس 2025
الإدارة الأميركية دخلت على خط الحملة أيضاً. ففي 5 أيار/مايو 2025، صرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مؤتمر صحفي بأن “حماس تجعل الأمر مستحيلاً… إنهم يأخذون كل ما يتم توفيره”. جاءت هذه التصريحات في وقت كانت فيه إسرائيل تمنع دخول أي مساعدات للقطاع منذ الثاني من آذار/مارس؛ ما تسبب في تفاقم أزمة الجوع والدواء. ورغم ذلك، كرر ترامب الادعاءات ذاتها خلال تموز/يوليو؛ مرة في لقائه برئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، وأخرى مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. هذا الخطاب الأميركي انسجم مع جهود الترويج لمؤسسة “GHF”، على حساب وكالات الأمم المتحدة، رغم تحذيرات الأخيرة من الأوضاع “المفجعة” في غزة.
التضليل من أجل تصفية الحسابات السياسية
السلطة الفلسطينية، استخدمت الرواية نفسها لتصفية حسابات سياسية مع غريمتها حماس. الرئيس محمود عباس شدد أكثر من مرة على أن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وليس سياسات أي تنظيم آخر.
وفي كانون الثاني/يناير 2025، اتهم محمود الهباش، مستشار الرئيس للشؤون الدينية، الحركة علناً عبر قناة “العربية” بالاستيلاء على المساعدات. ثم جاء بيان رسمي للرئاسة الفلسطينية في الثاني من أيار/مايو ليتحدث عن “عصابات حماس” التي تستهدف مخازن المساعدات الإنسانية.

بيان الرئاسة الفلسطينية بتاريخ 2 أيار/مايو 2025 – وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية “وفا”
لم يتوقف التصعيد عند هذا الحد. ففي مصر، أشعلت كلمة خليل الحية، رئيس حركة حماس في غزة، المُذاعة عبر قناة الجزيرة، في 27 تموز/يوليو 2025، غضباً واسعاً بين سياسيين وإعلاميين، بسبب ما تضمنته من رسائل صريحة إلى مصر تنتقد تقاعسها عن نجدة القطاع،. قال الحية في كلمته: “يا أهل مصر، يا قادة مصر، يا جيش مصر وعشائرها وقبائلها وعلماءها وأزهرها وكنائسها ونخبها، أيموت إخوانكم في غزة من الجوع وهم على حدودكم وعلى مقربة منكم؟”. لم ترد القاهرة رسمياً على الحية، لكن إعلاميين بارزين انخرطوا في تدوير الرواية المضللة. ففي 30 تموز/يوليو، هاجم أحمد موسى، المذيع المعروف بقناة “صدى البلد“، حركة حماس متهماً إياها بسرقة المساعدات وبيعها للفلسطينيين. قائلاً: “هو عايز المساعدات تروح له هو ويبيعها… دلوقتي عايز ياخد المساعدات اللي إحنا بنبعتها مجانا ويبيعها لهم عشان ياخد فلوس يسرق المساعدات بتاع الشعب الفلسطيني.. إحنا موديينها للناس اللي بتموت مش موديينها لحماس.. آدي الشاحنات النهارده يا غزة يا حماس يا خليل”.

ادعاء أحمد موسى على شاشة صدى البلد بتاريخ 30 تموز/يوليو 2025
وبعد أيام، في 8 آب/أغسطس، انضم يوسف الحسيني، مقدم برنامج “مساء جديد” على قناة “المحور”، للحملة قائلاً: “حماس مستفيدة من هذا الوضع طبعاً، حماس بتاجر في السوق السوداء بالمساعدات الواردة مما لا شك فيه، وفي الوقت ذاته تقر أمر واقع أنها لا تزال موجودة”، وأضاف: “طول عمرهم بيتاجروا بمعاناة الشعب الفلسطيني، وعلى هذا الأساس بيسرقوا الفلوس”.
منظمات أممية توضح الحقيقة
ورغم كثافة هذه الادعاءات، فإن جميعها يفتقر إلى أي دليل ملموس. على العكس، صدرت تصريحات وتقارير متعددة من جهات دولية تنفي الرواية بشكل قاطع. المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي، سيندي ماكين، قالت بتاريخ 25 أيار/مايو 2025 إنه لا يوجد أي دليل على سرقة حماس للمساعدات، مشيرةً إلى أن التدافع على الشاحنات يرجع إلى يأس الناس من الجوع. أما جوناثان ويتال، رئيس مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة، فأكد في بيان صحفي نشر بتاريخ 28 من الشهر نفسه، أن المسؤول عن سرقة المساعدات عصابات مدعومة من الجيش الإسرائيلي، واصفاً ما يحدث بأنه عمليات نهب ممنهجة سمحت بها القوات الإسرائيلية قرب معبر كرم أبو سالم.

بيان جوناثان ويتال، رئيس مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي المحتلة، بتاريخ 28 أيار/مايو 2025
مذكرة داخلية للأمم المتحدة، كشفتها صحيفة واشنطن بوست، دعمت هذه الشهادة؛ إذ أشارت إلى أن ياسر أبو شباب هو الطرف الرئيسي وراء سرقة القوافل، بمباركة إسرائيلية. المذكرة كانت كافية لدفع قبيلة الترابين في 30 أيار/مايو إلى التبرؤ من أبو شباب وإهدار دمه، بعد ثبوت تورطه في نهب المساعدات لصالح الجيش الإسرائيلي.
إضافةً إلى ذلك، نشرت وكالة رويترز نتائج تحقيق داخلي أجرته الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) في 25 تموز/يوليو، شمل 156 حادثة فقدان أو سرقة لمساعدات مولتها الولايات المتحدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2023 وأيار/مايو 2025. التحقيق أكد أنه لم يتم العثور على أي دليل يشير إلى تورط حماس.
من خلال استعراض هذه الوقائع، تمثل هذه الادعاءات نموذجاً على البروباغندا السياسية في التضليل، إذ يجري توظيف روايات غير مثبتة كأدوات دعائية في الصراع، بعيداً عن الحقائق الميدانية أو التحقيقات المستقلة. يتضح أن رواية “سرقة حماس للمساعدات” ليست أكثر من أداة سياسية استُخدمت من أطراف متعددة، كل بحسب مصلحته؛ إسرائيل لتبرير حصارها وتلميع مؤسستها الجديدة، والولايات المتحدة لتسويق شراكة مع تل أبيب على حساب الأمم المتحدة، والسلطة الفلسطينية في سياق الصراع الداخلي مع حماس، والإعلام المصري للرد على انتقادات الحركة للقاهرة.
لكن في المقابل، وبحسب ما تؤكده مصادر الأمم المتحدة ووكالة التنمية الأميركية، فإن لا شيء يثبت ضلوع حماس في سرقة المساعدات، بل إن الوقائع تكشف تورط عصابات محمية من الجيش الإسرائيلي في عمليات النهب الممنهج.
أنجز هذا التقرير ضمن مشروعات تخرج “دبلوم أريج لتدقيق المعلومات 2025” للشبكة العربية لمدققي المعلومات (AFCN).