
تكمن قوة وتأثير "أنا ما زلتُ هنا" لوالتر ساليس بكونه يُبلور، انطلاقاً من قصة حميمة لأسرة بايفا، الصورة الكبرى لمأساة رزوح البرازيل تحت سطوة 20 عاماً من الديكتاتورية العسكرية. وإنسانياً، هذه قصة ضحايا السلطوية في كل بلدان العالم.
اقتُبس السيناريو (موريلو هاوزر وهيتور لوريغا) عن كتاب بالعنوان نفسه (2015) لمارسيلو روبنز بايفا، أحد الأبناء الخمسة للعائلة، عن مأساة اختفاء والده روبنز بايفا، مهندس وبرلماني يساري سابقاً، عام 1971. الشخصية الرئيسية الأم يونيس (أداء كبير ومشحون بالعواطف لفرناندا توريس)، التي خاضت معركة طويلة وشجاعة لكشف حقيقة اختطاف زوجها وتصفيته.
رغم أنّ إخراجه ينحو إلى الكلاسيكية، مع توابل تشويق وإثارة تحبس الأنفاس، لا يضحّي ساليس في أي لحظة بالحقيقة، أو يمتهن ذكرى شخصياته لدواع درامية. بدلاً من ذلك، يمزج بين صُور فوتوغرافية ولقطات فيديو منزلي بجماليةٍ، تطرح تساؤلات ملهمة (خاصة بحضور مرجعية Blow-Up لمايكل أنجيلو أنتونيوني، 1966) عن مشروعية الصور والعلاقة المركّبة، التي تقيمها مع الذاكرة، ولا سيّما أنّ ساليس عاش مع الأسرة في شبابه صديقاً مُقرّباً، وهذا يوضّح الجهد الذي لا شكّ أنّه بذله ليضع مسافة فنية ضرورية مع الأحداث.
النتيجة: فيلم سياسي كبير عن البهجة التي تخطفها الأنظمة القمعية، وكيف تتحوّل لوعة الغياب إلى حافز يشحذ العزم لتحقيق العدالة، ومحاربة قوى النسيان.
نال "أنا ما زلتُ هنا"، بجدارة، "أوسكار" أفضل فيلم دولي، في النسخة الـ97 (2 مارس/آذار 2025) لجوائز "أوسكار"، ليغدو أول فيلم برازيلي يفوز بهذا التمثال الذهبي. قبل ذلك، عُرض بحضور مخرجه في "عروض غالا"، في الدورة الـ21 (29 نوفمبر/تشرين الثاني ـ 7 ديسمبر/كانون الأول 2024) لـ"المهرجان الدولي للفيلم بمراكش"، فأثار نقاشاً طويلاً.
في هذا الحوار، نقاشٌ عن طرح الفيلم، واختيار الممثلين، والالتزام الأخلاقي بالشخوص الحقيقيين. إضافة إلى أصداء تلقّي فيلمه في المهرجانات الدولية، وفي البرازيل.
(*) الموضوع الرئيسي لـ"أنا ما زلتُ هنا"، بهجةٌ، وكيف أنّ الديكتاتورية تُحطّم منحى العيش البهيج. هذا ينعكس خاصةً في بنائه السردي، في ثلاثة أجزاء.
هذه طريقة صائبة للنظر إلى الفيلم، أتّفق معها تماماً. ذكرياتي الشخصية عن هذه الأسرة مُرتبطة بالحالة الذهنية للفرح. هذا فيلم عن البهجة التي سرقتها حكومة قمعية. حتى في شكل المقاومة، التي تُفعّلها الأم، أعتقد أنّها تتطلّع إلى الماضي المُشرق للأسرة، لتستمدّ قوة، فتقول لأولادها: "ابتسموا". بالنسبة إليها، هذه معركة رئيسية يجب خوضها.
عندما تُلتقط صُور الأسرة، ترفض تقديمها ضحيةً، بل على العكس، تتحدّى الجميع بالابتسام.
لذا، أنتَ مُحقٌّ. هذا فيلم عن البهجة المسروقة، وعن كيفية تشكّل المصدر الأساسي لإلهامها المقاومة.
(*) اشتغلت على أرشيف الأسرة، محاولاً إعادة إنتاج الظروف التي التقطت فيها الصُّوَر. التشابه بين أفراد الأسرة والممثلين لافت للنظر. أكان هذا ضمن الأشياء التي بحثت عنها؟
اشتغلنا كثيراً على هذا التشابه، لكنه لم يكن شرطاً مسبقاً. خاصةً الأب الذي أدّى دوره سيلتون ميلو، ممثلٌ برازيلي رائع، تماهى كثيراً مع الشخصية إلى درجة أنّه زاد وزنه 25 كلغ. من هذا المنظور تحديداً، أصبح الشبه ملموساً بشكل متزايد في عيوننا. من جهة أخرى، استحوذ اليافعون، مؤدّو الأبناء الخمسة للعائلة، على روح شخصياتهم قبل كلّ شيء. لتنصف شخصيات كانت موجودة فعلياً، وعانت الكثير، عليك السعي إلى التقاط شيءٍ يتجاوز المظهر الجسدي أو نبرات الصوت: أنْ تسعى إلى القبض على جوهر الشخصيات. أعتقد أن هذا مكان يأتي منه الشعور بالتشابه أيضاً. شعور أنّك تنظر إلى أشخاص حقيقيين.
إلى ذلك، ساهم الممثلون بأنفسهم في الفيلم. أجرينا مقابلات معهم جميعاً، والتقوا الشخصيات الحقيقية.
(*) هناك عمل كبير على التشكيك في شرعية الصُّور، الفوتوغرافية أو لقطات الفيديو العائلي، وقبل كلّ شيء بالإشارة إلى "تكبير (Blow-Up)" لأنتونيوني، وفكرة أنّه كلما كبّرتَ الصُّور، رأيتَ أقلّ.
هذه ملاحظة جيدة جداً. مُجدّداً، أوافقك الرأي تماماً. ليست مصادفة أنْ يكون Blow-Up هناك. يُعاني توماس، المُصوّر الفوتوغرافي/الشخصية الرئيسية فيه، أزمة هوية، لأنّه لم يعد قادراً على رؤية الواقع أو فهمه. في فيلمي، حقيقةُ عجزنا عن استيعاب التاريخ بشكل منطقي نقطةٌ رئيسية. في الفيلمين، تكمن مسألة الاختفاء. ومع ذلك، لا ترتبط اللغة السينمائية مباشرة بفيلم أنتونيوني، بل بذاكرتي عن فضاءات عيش الأسرة وإضاءتها، والحركة الانسيابية للشخصيات فيها.
في الجزء الثاني، سكون الحركة، وانسحاب الضوء، وخفوت الأصوات والموسيقى، كلّها تحدّد اللغة. تصبح الكاميرا أكثر ثباتاً منذ اللحظة التي يختفي فيها الأب.
(*) كيف كانت علاقتك بأسرة بايفا؟
في 30 شهراً تقريباً، كنت صديقاً مُقرّباً جداً منها، خاصة مع الابنة الوسطى نالو. لكنّ هذا لم يمنع أنّي اشتغلت مع كاتبين شابين سبع سنوات على اقتباس كتاب مارسيلو روبنز بايفا.
(*) العلاقة بالأسرة ساعدتك كثيراً طبعاً، لكنّي أتصوّر أنّه صعبٌ عليك أخذ المسافة اللازمة من مشاعرك نحوها.
تساءلت كثيراً عما إذا كان هذا القرب لن يخلق لديّ شكوكاً أكثر من شخص لا علاقة له بالأسرة. أما في ما يخص المسافة، فوجدتها حالة بحالة إذا أحببت، مع كلّ شخصية من الشخصيات الخمس، باكتشافها مجدّداً، وإجراء مقابلات مع كل شخصٍ، ليمنحوني جميعهم الضوء الأخضر، أو بطريقة ما التعاقد المعنوي لاقتباس قصتهم.
حالياً، يرافق بعضهم عروض الفيلم. في باريس مثلاً، عرضٌ ونقاش أداره أوليفييه أساياس، وحضرته نالو التي تعيش اليوم هناك، وتشتغل عالِمة رياضيات. كانت الأسرة حاضرة أيضاً في العرض الأول بـ"فينيسيا".
(*) نال "أنا ما زلتُ هنا" جائزة أفضل سيناريو في "مهرجان فينيسيا 2024"، ومُرشّح باسم البرازيل لـ"أوسكار" أفضل فيلم دولي (جرى الحوار قبل فوزه بالجائزة ـ المحرّر). ما شعورك إزاء الترشيح والجوائز التي نالها؟
يأتي وقتٌ لا يعود فيه الفيلم مُلكاً لك، لينتمي إلى من يضيفون إليه بتصوّراتهم وتأويلاتهم، وعبر جوائز لجان التحكيم، وفي مهرجانات فاز فيها بجائزة الجمهور أحياناً كثيرة، كما حصل في كندا والبرازيل وفرنسا. هذا يجعل الأسئلة التي يطرحها أكثر تعدّداً في معانيها، ومن ثم أكثر إثارة للاهتمام.
ما يخص "أوسكار"، صنعتُ فيلماً للبرازيل أولاً. أحياناً، عندما تصنع فيلماً قريباً جداً من الواقع، يُصبح عالمياً. لا أعرف إلى أي مدى هذا الشعور صحيح أمْ لا، ما دام أنّ الفيلم لم يستكمل بعد مسيرته، ولا أملك كرة بلورية لأرى ما سيحدث. الفيلم يشقّ طريقه بفضل المهرجانات. أعتقد أنّي ظللت وفياً لروحه، لأنه صُنع ليُشاهد بصالة السينما، وليس ليُعرض ببثّ تدفّقي أو في منصّات. الجمهور الذي شاهده بكثافةٍ في صالات البرازيل، أثبت أنّ الفكرة جيّدة.
(*) لا أفهم كيف يمكن لفيلم إنساني كهذا أنْ يجد مناهضين له، كالفصائل اليمينية في البرازيل.
لكنّ أصواتهم ضئيلة للغاية، نظراً إلى الجمهور الذي شاهده في الصالات: مليونا مُشاهد في ثلاثة أسابيع فقط (مع نهاية فبراير/شباط الماضي، شاهده خمسة ملايين برازيليّ ـ المحرّر). لم يحدث شيء كهذا في البرازيل منذ فترة طويلة. أكثر من مجرّد مسألة أرقام، متأثّرٌ بحقيقة أنّنا نشهد تجربة جماعية للسينما في البرازيل. أعتقد أنّ الجمهور، بأجيال مختلفة، أدرك أنّه إذا أراد تجربة ما يطرحه هذا الفيلم، فعليه مُشاهدته رفقة أشخاص آخرين في الصالة. في مناطق مختلفة من البلد، وفي مدن نائية، يتشارك أناس على وسائل التواصل الاجتماعي ما حدث في صالة السينما حين المشاهدة.
عامة، يصطفّ المشاهدون طويلاً خارج الصالة لمناقشته. أظنّ أنّه لبّى لدى الجمهور رغبة دفينة في رؤية انعكاسٍ للواقع البرازيلي على الشاشة الكبيرة، وأثار تساؤلات فيهم. هذه المهمة الحقيقية للسينما: طرح أسئلة.

Related News


