
أصدرت منظمة العفو الدولية تحذيراً بعد قرار "ميتا" رفع القيود عن المحتوى، مؤكدة أن هذا يشكّل تهديداً للمجتمعات الأضعف في أنحاء العالم، ونبهت إلى إمكانية تورط الشرطة في المساهمة بـ"عنف جماعي" و"انتهاك حقوق الإنسان" في إشارة إلى ما حصل في ميانمار عام 2017. أول معالم هذا الإجراء الذي اتخذته "ميتا" اتضح حين تحولت الـ"ريلز" فجأة إلى معرض للعنف والإباحية غريبة المصادر، وقد بدأت تتدفق فجأة أمام المستخدمين، ووصلت حد المحتوى الجنسي، لنرى أنفسناً أمام محتوى "جديد" لم يسبق أن عهدناه من قبل، لتسارع بعدها الشركة للاعتذار عن الخطأ وإصلاحه.
يتضح الأمر أيضاً مع انتشار صور القتلى من سورية وقطاع غزة ومختلف أنحاء العالم، فتحوّلت صفحات وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصات للتوثيق في بعض الأحيان، ما يعيدنا إلى مفارقة وإشكاليات متعددة. أول هذه الإشكاليات لها علاقة بالمحتوى العنيف نفسه، الغريب عن "فيسبوك"؛ فما مصدره؟ وأين كانت كل هذه الصور والمقاطع لتظهر فجأة أمامنا دفعة واحدة؟ من وراءها وأين تُصوّر؟ كل هذه التساؤلات، بغض النظر عن إجاباتها، تكشف أننا أمام محتوى هائل لم يكن مباحاً. محتوى يكشف عن مستويات من تصرفات البشر، والرغبة الغريبة في توثيقها، ونتحدث هنا عن الفيديوهات ذات المحتوى العنيف خارج سياق الحروب.
في سياق الحروب والنزاعات، والدور التوثيقي الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي، تتغير أساليب المحاكمة. هناك صفحات تلعب دوراً في توثيق الجرائم وجثث الضحايا للتعرف إليهم، وتلعب دوراً في المحاسبة. في الوقت نفسه، هناك انتهاك شديد للكرامة الإنسانية عبر نشر صور الجثث للعلن، وأحياناً من دون أن نعرفهم.
ضمن هذه المفارقة، والقتل العلني في المنطقة العربيّة، تساهم هذه الصور أيضاً في بث الرعب والخوف، وهذا ما نشهده في الساحل السوري. كيف يمكن لمن شهد مقتلة في حيه على وسائل التواصل الاجتماعي أن يعود إليه، لاحقاً، في ظل غياب ضمانات واضحة؟
أيضاً، كيف تمكن الثقة بأحدهم وهو يبث مباشرةً مشاهد قتل وتعذيب يرتكبها بنفسه، ثم يعود إلى منزله؟ صور كهذه تهدد السلم الأهلي، والقدرة على الاستقرار في مكان قد يحوي مجرماً محتملاً، ولا نتحدث عن سورية فقط، فكم الفيديوهات من مناطق مختلفة من العالم يدعم هذه الفرضيّة.
لكن، ماذا عن ما بعد الرعب؟ أي مرحلة انهيار مفهوم الكرامة الإنسانية، بعد نشر صور الأطفال الموتى في سورية، ثم غزة. أليست صور الموت هذه، بغض النظر عن مصدرها وخصائصها التوثيقية الخاصة بمكان وزمان محدد وجريمة محددة، تعكس واقعاً نحاول تفاديه؟ هذا واقع يكشف عن وحشية بعض البشر، بل رغبة بعضهم بتصوريها وتوثيقها ثم بثها. "رغبة بتصويرها وتوثيقها ثم بثها" مرعبة هذه العبارة، وتحيلنا إلى مساحات في الطبيعة البشريّة ومفهوم الرغبة، وعلاقته مع المرئية، أي أن يكون واضحاً وجلياً كل مَن يصوّر ومن يتلقّى، خصوصاً أن العنف الحقيقي، لا يُقطّع أو يُمنتج. زمن الوحشية فيه أثقل وأطول. زمن تلتهمه الخوارزميات وتبثه وتضخمه ليرسخ في عقولنا مراراً.
نحن، إذن، أمام أسئلة تتجاوز الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي. هناك الرغبة بالعنف وتفسيراتها، والرغبة بالتوثيق، والأخطر هي الرغبة بالبث، الرغبة بالمشاركة مع الآخر الغريب الذي تتحرك فيه أيضاً الرغبة بالمشاهدة، والتي تتحول استهلاكاً لوسائل التواصل الاجتماعي، والتي جعلتنا نتلقى مجزرة، وإعلاناً، ثم جثة، ثم مقطعاً جنسياً، ثم مقطعاً من بودكاست ما، ثم الرئيس الأميركي دونالد ترامب. ربما هكذا يختزل العالم الرقمي الآن.

Related News


