تونس وتفاهة الاستبداد
Arab
2 hours ago
share
كانت الأنظمة الاستبدادية في الدكتاتوريات الكلاسيكية تبررّ وجودها عبر مشروع كبير، أو رؤية تاريخية، رغم الفظاعات التي يمكن أن ترتكبها، والجرائم الجماعية والانتهاكات التي قد تحصل من دون أن يُحاسب أحد. في النظام النازي الاستبدادي مثلًا، بُني الاستبداد على فكرة "المجد القومي" وتفوّق العرق الآري. ورغم ما نعرفه عنه، كان له "مشروع ضخم" يقدّمه للناس، يتجلى في إعادة بناء الأمّة وتوسيع الإمبراطورية. أمّا في الاستبداد العربي الكلاسيكي، مثل نظام جمال عبد الناصر في مصر أو نظامي البعث في سورية والعراق، فقد قدّمت هذه الأنظمة نفسها رغم القمع في إطار "مشروع قومي"، قائم على الوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية، وبناء الدولة الحديثة، ناهيك عن الدفاع عن القضية الفلسطينية وخوض الحروب من أجلها. أما اليوم، ماذا يحدث في الأنظمة الدكتاتورية العربية؟ ما الذي يجعل الاستبداد تافهًا إلى هذا الحد؟ كلّ الحقائق تؤكّد غياب أيّ مشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي حقيقي يُخرج البلاد من أزماتها متعدّدة الأوجه. كلّ ما نعلمه أنّ السلطة بيد واحدة وأنّ التغيير سيأتي يوما من تلك اليد. فالطغيان لم يعد بتلك العظمة، بل تحّول إلى آلية باردة وتافهة. والقضايا التي تُصاغ كـ"معارك وطنية" لا تتجاوز أحيانًا كلام مواطن بسيط، بينما أزمات البلاد الحقيقية تُترك بلا حلول. ولا يعني هذا أنه لا يوجد برامج للتغيير، بل ربما استحال تطبيقها. الشر ليس دائماً عظيماً أو استثنائياً، بل يمكن أن يكون سهلاً، سطحياً، روتينياً بحسب وكالة رويترز؛ حكمت محكمة تونسية على مواطن موقوف منذ سنة ونصف تقريبًا، بالإعدام بسبب منشورات اعتُبرت "مهينة" لرئيس الجمهورية، سبق أن نشرها على منصّة فيسبوك. نعم عزيزي المواطن، أنت قرأت الخبر صحيحًا؛ الإعدام، بسبب كتابة منشورات خفيفة ظل، للتندّر، والضحك قليلًا على السلطة، وجلب الإطراءات والإعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي. لم يعلم صاحبها أنها ستكلّفه حياته. وثمّة أمثلة كثيرة لا يتسع المجال لذكرها الآن عن اللامبالاة التي تتعامل فيها سلطة البلاد مع آراء الناس وتعبيراتهم المختلفة عنها. ولكن حجم الأحكام والقضايا التي يُنظر فيها، والأحكام القاسية التي يتلقاها أصحابها بسبب كلمة أو رأي عابر في وسائل الإعلام المسموعة، مُخيف ورهيب. هذه ليست حالة استثنائية، بل مثال على تفاهة السلطة حين تفقد المعنى والمشروع. حين تصبح الكلمات تهديدًا، والنكتة جريمة، والاختلاف خطرًا وجوديًا، لا يعود الاستبداد عظيمًا أو مرعبًا، بل تافهًا في فكرته، باردًا في تنفيذه، وعديم الجدوى في نتائجه. سبق وكشفت حنا أرندت، في كتاب "تفاهة الشر"، أنّ ارتكاب جرائم عظيمة، لا يحتاج إلى شياطين استثنائيين بل، قد يجرُؤ ويقوم بها موظفون عاديون، أناس طبيعيون، يطبقون الأوامر ببيروقراطية عنيدة. فالشر ليس دائمًا عظيمًا أو استثنائيًا، بل يمكن أن يكون سهلًا، سطحيًا، روتينيًا. وعندما يُلغى التفكير النقدي، وتصبح الطاعة العمياء هي القاعدة، يتحوّل الإنسان إلى أداة في ماكينة الاستبداد، ويُنتج شرًا هائلًا عبر أفعال صغيرة وبيروقراطية. وهذا بالضبط ما يحدث اليوم.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows