صراع 1949-1979: عن الحرب اللبنانية وصراع الذاكرة
Arab
2 hours ago
share
شهدت المكتبة العامة لبلدية بيروت - مونو، مساء الأربعاء الماضي، عرض الفيلم الوثائقي "صراع 1949-1979" للمخرج اللبناني جوزف خلّوف، بحضور حشد من المهتمين بالسينما والباحثين في قضايا الذاكرة والحرب الأهلية، إلى جانب جمهور واسع تفاعل مع العمل. العرض لم يكن مناسبة سينمائية فحسب، بل حدث ثقافي أعاد فتح جروح قديمة ومنحها لغة جديدة. الفيلم يقوم على مواجهة مباشرة بين الابن ـ المخرج، وبين والده الذي عاش تجربة الحرب اللبنانية. من خلال هذه المواجهة، يطرح خلّوف سؤالاً وجودياً: هل يمكن النظر إلى الأب كمناضل أم كقاتل؟ وأين تقف الحدود بين البطولة والجريمة حين تختلط الخيارات الفردية بفوضى حرب أهلية عبثية؟ هذا السؤال يتجسد في علاقة جيلين: جيل الأب المولود عام 1949، الذي انخرط في صخب الحرب وعنفها، وجيل الابن المولود عام 1979، الذي جاء إلى الحياة في ظلها وتشرّب انعكاساتها وندوبها. خلال النقاش الذي تلا العرض، أوضح خلّوف أنّ الفيلم بالنسبة إليه ليس مجرد وثيقة أو تسجيل أرشيفي، بل عمل "شفائي" بالدرجة الأولى. أراده مواجهة شخصية مع الأب، وفي الوقت نفسه مساحة للبوح وكسر الصمت الذي يثقل العائلات اللبنانية. الفيلم موجّه مباشرة إلى الأب، لكن قوته تنبع من هذه الصراحة القاسية التي تحرر الذات من عبء الماضي وتتيح الاعتراف بما ظلّ مسكوتاً عنه. اللافت أنّ الأم غابت كلياً عن مسار الفيلم، وهو غياب مقصود كما أوضح المخرج، يسلط الضوء على الخلل البنيوي في السرديات اللبنانية: الحرب ألقيت على عاتق الرجال المقاتلين، فيما صُمت عن تجارب النساء. هذا الغياب أثار نقاشاً بين الحاضرين حول موقع المرأة في روايات الحرب، وهل تغييبها انعكاس لواقع اجتماعي أم خيار فني يفضح التهميش نفسه. من زاوية نفسية، توقف خلّوف عند أثر العنف الأسري، معتبراً إياه الوجه الآخر للعنف العام في المجتمع. العلاقة المضطربة بين الأب والابن ـ بما تحمله من قسوة وصمت ـ ليست مجرد قصة عائلية، بل صورة مصغرة عن لبنان: بلد يجرح أبناءه ويتركهم من دون إجابات. الفيلم يقارب العنف الأسري لا كمسألة فردية فقط، بل كنتاج مباشر لتاريخ طويل من العنف السياسي والطائفي، انعكس على العائلات وأثقلها بالمكبوت. الجمهور تفاعل بحرارة مع العمل، ورأى كثيرون أنه كسر حاجز الصمت وفتح باباً للنقاش حول المصالحة مع الذات قبل المصالحة مع الآخر. البعض وجد أن قوته تكمن في لحظاته الحميمية، حين لا يبرر المخرج والده ولا يدينه، بل يصغي إلى صدى الجرح. آخرون توقفوا عند جرأة الطرح، إذ تحولت الحكاية الخاصة إلى مرآة لآلاف العائلات اللبنانية التي لم تُداوِ جراحها بعد. من الناحية النقدية، يمكن القول إن "صراع 1949-1979" نجح في المزج بين الاعتراف الشخصي والبعد الجماعي، مقدّماً نموذجاً على قدرة السينما اللبنانية على مقاربة الحرب من منظور نفسي. صحيح أنّه بدا أحياناً أسير النظرة الذاتية للمخرج، لكن هذا الانحياز هو ما أعطاه صدقه وقوته. هكذا تحوّل من فيلم موجّه إلى أب واحد، إلى صرخة جماعية عن مجتمع لم يتجاوز ماضيه. خرج الجمهور من المكتبة الوطنية وهو يحمل أكثر من انطباع: شهادة شخصية عن أب وابن، قراءة في أثر الحرب على جيلين، ورسالة عن ضرورة مواجهة موروث العنف قبل أن يستمر في إعادة إنتاج نفسه. بدا واضحاً أنّ "صراع 1949-1979" لم يكن مجرد عرض سينمائي، بل حدث ثقافي أطلق نقاشاً مفتوحاً حول الذاكرة والعائلة والجرح اللبناني المستمر.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows