
Arab
بدأب وصدق يُحسَد عليهما، يواصل لاف دياز (1958) تناوله تاريخ الفيليبين، القديم والحديث. بتركيزه على القديم، فَضَح الاستعمار بوجوهه المختلفة، وتبعاته وآثاره على بلده، بدءاً من الاستعمار الإسباني، فالاحتلال الأميركي ثم الياباني. وبتناوله التاريخ المعاصر، في معظم أفلامه، هاجم الفاشية، وفضح التاريخ الديكتاتوري القمعي في الفيليبين، تحديداً فترة حكم الديكتاتور فرديناند ماركوس، الممتدة أكثر من عقدين، إلى نهاية الثمانينيات الماضية.
اختياره أهم المحطات في تاريخ بلده نابعٌ من رغبة صادقة في تناول سينمائي لمواضيع، استعَصَت على الكشف والمعالجة والمواجهة، حتى اللحظة. كما من رغبته في استخدام السينما أداة إنعاشٍ للذاكرة، والتذكير بأنّ المقاومة ستظلّ أسلوب حياة، ضد الاحتلال والديكتاتورية.
في جديده "ماجلان"، المشارك في برنامج العروض الأولى في الدورة الـ 78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان كانّ، لا يحيد دياز عن نهجه المعتاد، باستثناء عودته إلى التاريخ القديم نسبياً، أي القرن الـ 16، مُختاراً إحدى أهمّ الفترات المفصلية في الفيليبين والعالم، ومُشتغلاً على الجانب الرئيسي المجهول في شخصية البرتغالي فرديناند ماجلان وغزواته، وحجم مساهمته في استعمار الفيليبين وغيرها. تناولٌ رصين وجذّاب ومُشوّق، وغير زاعق، لأضرار عصور الاستكشافات والغزوات الاستعمارية، ومدى كارثية غزو ـ فرض ثقافة على أخرى، والتغيير القسري لمجتمعات ولغات وأديان ومعتقدات.
يستعرض دياز لمحات من الرحلة الاستعمارية لماجلان عبر أرخبيل الملايو، وصولاً إلى الفيليبين. رحلة لم يكن غرضها الأساسي الاستكشاف، بل تحقيق حلم الثراء، والسيطرة على أراضي التوابل، وكنوز أخرى، وإخضاع البلد لحكم ملك إسبانيا، وفرض لغة المستعمِر، وديانته الكاثوليكية، التي جاء ليُبشّر بها. في النهاية، أدّت حملته الدموية المسعورة إلى هلاكه على شواطئ الفيليبين، لخداعه البدائيّين الهمج الوثنيين العراة له، بعد شنّهم هجوماً مُضاداً ماكراً عليه وعلى رجاله.
تبدأ الأحداث في ولاية مالاكا، التي أراد البرتغاليون الاستيلاء عليها، في مهمة شارك فيها الشاب ماجلان (غايل غارسيا بيرنال)، عام 1504. في الفيلم كلّه، لا يظهر ماجلان بطلاً أو فاتحاً، بل مستغلاً جريئاً، يبذل جهداً لتنفيذ طموحاته، وخدمة السباق الاستعماري المحموم، والقضاء على الإمبراطوريات الغابرة. تجلّى هذا في قراره العمل للتاج الإسباني، بعد رفض ملك البرتغال دعم رحلته الأخيرة إلى الفيليبين.
لم يهتم دياز كثيراً بالرصد التفصيلي الدقيق للتاريخ، والتوقّف عند الأحداث المفصلية، إذْ اختزل المراحل، عبر كتابة التواريخ والبلدات على الشاشة، لتكثيف السنوات الـ 15 الأخيرة في حياة ماجلان، ناقلاً أكبر قدر ممكن من مسار حياته بعد عوته إلى البرتغال، ثم ذهابه إلى إسبانيا لتأمين رحلته، فشروعه في الرحلة، التي استمرّت ثلاث سنوات، إلى أرخبيل الملايو، وكيف تحوّل فيها إلى قائد ساديّ مهووس، لا يتورّع عن القتل والنهب والتبشير بوحشية، بعد نجاته من الهلاك في محيط الباسيفيك، مع أفراد حملته.
في مشهد طبيعي ساحر، وسط نهر بغابة استوائية بكر يلفّها الهدوء، تفزع امرأة عارية من السكّان الأصليين، بينما تفرّ من النهر، وتصرخ مراراً مُحذّرةً أبناء قبيلتها من الغزو البربري: "رأيت رجلاً أبيض". تُبدع الكاميرا الساحرة لأرتور تورت، بالاشتراك مع دياز، في تصوير السكّان الفزعين، وأجواء معيشتهم وطقوسهم وأكواخهم وحياتهم الهانئة. وأيضاً، مشاهد الجثث، والمساكن المحروقة، وأوجه التنكيل والاستعباد والاغتصاب والسجن والقتل.
فنياً، لم يحد لاف دياز، أحد أهم المخرجين المستقلّين العاملين بميزانيات صغيرة، عن ممارسته استقلاليته الفنية التامة، بعيداً عن نظام الاستديو، ومتطلّبات الإنتاج الكبير، وتقاليد النوع السينمائي. أسلوبه الخاص، وبصمته الجلية، وفنيّاته الفريدة، بارزة جداً، كما ابتعدت بالفيلم كثيراً عن المعتاد والمطروق في هذا النوع من الأفلام.
يحتوي "ماجلان" على عدد قليل للغاية من اللقطات المُقرّبة. معظم اللقطات واسعة أو بعيدة، ومُصمّمة بدقّة وإتقان رائِعَين. حركة كاميرا ثابتة أغلب الوقت، ترصد الأجواء مُطوّلاً. الإيقاع بطيء من دون ملل. الحوارات قليلة، ووفق الضرورة الدرامية. لا معارك، بل لقطات ما بعد المعارك. ورغم تركيزه على الإنساني والأحداث المأسوية، لم يغفل عن رصد الطبيعة، والتفاصيل الدقيقة المتعلّقة بالطقوس والشعائر والفولكلور، ومفردات أخرى ساهمت في إبراز الموضوع وتعميقه.
جاء "ماجلان" في ثوب جديد بعض الشيء، مقارنة بالأعمال الغزيرة السابقة لدياز. إنّها المرة الأولى التي يستعين فيها بنجم معروف غير فيليبيني، المكسيكي بيرنال. كما أنّ هذا أوّلُ روائي طويل يُصوِّره بالألوان، منذ "نورتي، نهاية التاريخ" (2013)، وأحد أقصر أفلامه (160 دقيقة).
الجمال المهيب للتصوير، بألوان طبيعية غاية في التناسق، يغلب عليها الأخضر والأزرق والبني، جعل الصورة لوحات من القرن الـ 16. لذا، الفيلم ممتع بصرياً. باختصار، لم يسبق لدياز إنجاز صورة بصرية ملوّنة بهذه الروعة.
بعيداً عن وقائع التاريخ المرصودة فيه، يؤكّد لاف دياز أنّ الحاضر يشبه الماضي، وأنّنا لا نزال همجيين، وكما كنا. ربما نتقدّم ونتطوّر، عملياً وتكنولوجياً، لكنّنا في الواقع لم نتقدّم إنسانياً، بل نتراجع وننحدر.

Related News

السلطات السورية تشكل أول برلمان بعد الإطاحة بالأسد
aawsat
9 minutes ago

بيرلا حرب.. ملكة جمال لبنان 2025
al-ain
17 minutes ago

بدء التصويت في انتخابات أول مجلس شعب بسوريا بعد الأسد
al-ain
22 minutes ago