Arab
بدأت المغنية اللبنانية المقيمة في لندن سُرى عبده رحلتها من الأوبرا قبل أن تجد نفسها في الغناء الشرقي، مؤلّفةً نصوصها الخاصة. تجربتها ليست مجرد انتقال بين أنماط موسيقية، بل بحث عن بيت جديد يُبنى من الذكريات والإحساس، ويحوّل الغربة إلى مساحة للإبداع. بين الأوبرا والقدود وبين الروك والميجانا، تمضي سُرَى عبده في رحلة تُعيد وصل الغربة بالوطن والماضي بالحاضر. تؤمن أن الغناء لا يكتمل إلا حين يلامس القلب ويوقظ الإحساس. وربما تختصر كلماتها على "فيسبوك" سرّ مسيرتها: "الطفل الذي في داخلي نام ولا يريد أن يستيقظ"، ليأتيها صوت والدها مذكّرًا: "دَعي الطفلة ترتاح، لكن لا تسمحي لها أن تغادر". تلك الوصية البسيطة تحوّلت إلى بوصلة فنّها، وإلى وعدٍ بأن يبقى الغناء فعل حياة لا يخبو.
في أمسيتها "أغاني من بلاد الشام"، التي نظمتها منصة مرسم على مسرح معهد بيشوبس غيت في لندن مساء 26 سبتمبر/أيلول الماضي، سعت عبده إلى أن تمنح جمهورها رحلة موسيقية تمزج التراث بالتجديد، وتفتح عبر الصوت أبواب البيت من جديد. في حديثها إلى "العربي الجديد"، تروي المغنية حكاية بداياتها، وما يعنيه لها الغناء بين بلدها الأم، والاغتراب.
ما الذي مثّله "أغاني من بلاد الشام" لكِ كونه أول أمسية رسمية كاملة، وأول مرة قدّمتِ فيها أعمالك الخاصة؟
شاركتُ سابقًا في حفلات صغيرة لم تتجاوز نصف ساعة، لكن الأمر مختلف تماماً هذه المرّة. إنه أول حفل كامل لي، قدّمت فيه أعمالي الخاصة إلى جانب أغان تراثية. هذه الأمسية تمثّل بالنسبة لي خطوة تأسيسية، ليتعرّف جمهور أكبر إلى هويتي الفنية وصوتي ومشروعي الموسيقي.
لنعد إلى البدايات. ما اللحظة التي جعلتك تشعرين بأن صوتك ليس مجرد هواية بل مشروع؟ ومن كان أول من شجّعك؟ وكيف كان رد فعل العائلة؟
منذ طفولتي كانت الموسيقى جزءاً من حياتي. حتى أن والدتي تتذكر أنني في عيد ميلادي الأول قلت: "عندما أكبر سأصبح مثل نجوى كرم". لم تكن هناك لحظة فاصلة بل إحساس متجذر. أستاذ الموسيقى في المدرسة زياد ديب كان أول من شجعني على دراسة الموسيقى. أما عائلتي، فرغم انفتاحها كانت واقعية أكثر؛ والدي أراد أن أكمل دراستي وأحصل على وظيفة ثابتة، فدرست إدارة الأعمال، لكنني ظللت مقتنعة بأن الموسيقى هي حياتي الحقيقية.
بدأتِ دراستك في الأوبرا ثم انتقلتِ إلى الغناء الشرقي. ما الذي أضافه الغناء الأوبرالي إلى صوتك؟ وهل هناك تقنيات سرّية ما زلتِ تستخدمينها في أدائك للأغنية الشرقية؟
الغناء الأوبرالي علّمني الكثير. هو يدرّب الصوت على القوة والمرونة والتحكم، ويمنح الفنان حضوراً مسرحياً ومعرفة بكيفية الوقوف والتعبير أمام الجمهور. حين بدأتُ دراسة الغناء الشرقي، أدركت أن له خصوصية مختلفة، لا سيما في مخارج الحروف وطريقة التعبير. وبالطبع، هناك تقنيات أوبرالية أستعين بها في الغناء الشرقي، لكني أفضل أن ابقيها سرّاً. كذلك، أستاذي الحالي باسل صالح، مدرّب الأوبرا، يساعدني على الجمع بين المدرستين.
اخترتِ عنوان "أغاني من بلاد الشام" لحفلك. إذا اختصرنا بلاد الشام بلحن واحد أو صورة موسيقية، ماذا تختارين؟
ربما الدبكة والعتابا والميجانا، فهي موروث مشترك بين شعوب بلاد الشام. وإذا أردت الحديث بإحساسي كوني لبنانية، فأنا أرى أن فيروز تجسّد صورة الشرق بأكمله، مع كامل تقديري لفنانين آخرين مثل صباح فخري.
هل تعتبرين هذا الحفل عودة إلى البيت، أم مغامرة لاكتشاف البيت من جديد؟
أراه مغامرة أكثر مما هو عودة. لا أحب الالتفات إلى الماضي، فعندما كنت أعيش في لبنان لم أغنِّ بالعربية أبداً؛ كنت أدرس الأوبرا وأغني مع فرق صغيرة موسيقى الروك أو البلوز أو الجاز. مع أنني كنت أحب الموسيقى العربية كثيراً، إلا أنني لم أشعر برغبة حقيقية في غنائها إلا بعدما جئت إلى لندن. هنا، الغربة جعلتني أكثر تمسّكاً بثقافتي، فبدأت أكتشف العربية في صوتي وأقدّر تفاصيل حياتية بسيطة لم أكن ألتفت إليها من قبل.
لديكِ مؤلفات خاصة ستقدمينها في الحفل. من أين تستمدين إلهامك في الكتابة والتأليف؟
الأفكار تأتيني عفوياً. منذ الصغر كانوا يقولون إنني أتحدث كثيراً وأفكر كثيراً، وربما لهذا السبب تتولّد لديّ أفكار لأغانٍ جديدة. أحياناً تخطر في بالي جملة أو فكرة صغيرة، فتنمو تدريجياً لتصبح نصّاً غنائيّاً. أحبّ الكلمات أكثر من أي شيء؛ غالباً أحفظ النصوص قبل أن أحفظ الألحان. أما في مجال التلحين، فبين حين وآخر أبتكر شيئاً، لكن شقيقي ناهي هو الموهوب في هذا المجال. هو من يتولى معظم التلحين والعزف، وحضر معي على المسرح.
كيف تصفين تجربتك في العمل مع شقيقك ناهي؟
ناهي يبلغ الـ22 عاماً من عمره، وبدأ دراسة الموسيقى في الكونسرفاتوار منذ طفولته. شخصيته جدّية ومرتبطة بالمدرسة التقليدية، بينما أميل أنا إلى الأفكار الجديدة والجريئة. حين نعمل معاً، يوازن هو اندفاعي ويعيد ترتيب أفكاري، فيما أساعده على جعل موسيقاه أكثر حداثة وعصرية. هذا التلاقي يثمر دائماً شيئا مختلفاً وجميلا. في الحفل لن يقتصر دوره على العزف على العود، بل سيغني معي أيضاً أغنية مشتركة.
إلى جانب الأغاني التراثية، هل هناك عمل خاص تعتبرينه الأقرب إليك؟
نعم، أغنية بعنوان "ياسمين الشام". هي أول أغنية نعمل عليها معاً بتكامل، بعد أن كانت أعمالنا السابقة مجرّد محاولات متفرقة. هذه الأغنية عزيزة عليّ جداً، لذلك اخترت أن أقدّمها في الحفل.
عندما تعيدين تقديم أغنية تراثية، هل تتعاملين معها على أنها أيقونة مقدسة لا تُمس، أم أنها لوحة مفتوحة لإضافة ألوانك الخاصة؟
أرى الأمر في موقع وسط. أحب أن أحافظ على الجوهر والأساس وألا أبتعد عنه كثيراً. الإبداع يكون عادة في التوزيع الموسيقي وفي اختيار الآلات وإدخال عناصر جديدة، لكنني أؤمن بأن الحفاظ على الأصل مسؤولية لأنه في النهاية تراثنا، وعلينا أن نصونه حتى ونحن نقدّمه بروح جديدة.
حدثينا عن تعاونك مع زياد هشام.
منذ أول بروفا جمعَتنا كان هناك انسجام سريع وكيمياء فنية واضحة. زياد في الأصل موسيقي شرقي بارع في عزف الرق، ثم درس لاحقاً موسيقى الجاز. هذه الثنائية نادرة، إذ غالباً ما يكون الفنان متمكناً من مدرسة واحدة أكثر من الأخرى. أما زياد فمتمكن من الاثنين معاً، وهذا ما يميّزه. العمل معه سلس وكثيراً ما نجد أننا نفكر في الشيء نفسه. هذا التفاهم يجعل التجربة مريحة وممتعة.
والجمهور الذي لا يفهم العربية، ما الذي يجذبه في حفلاتك؟
الموسيقى في جوهرها لغة عالمية. أجمل ما أشعر به على المسرح هو أننا جميعاً، مئات أو ربما آلاف الأشخاص، نتشارك اللحظة نفسها ونحسّ بالمشاعر ذاتها، من دون الحاجة إلى ترجمة.
كيف تتعاملين مع لحظات الشك قبل العروض؟ هل لديك طقوس خاصة تمنحك الثقة؟
أنا محظوظة لأن معظم أفراد فريقي أصدقائي المقربون. في الحفل المقبل سترافقني صديقة عزيزة جداً، هي الكاتبة والمغنية المصرية المقيمة في لندن، آمنة العبد. أعتبرها نظام دعمي الأساسي؛ فهي دائماً إلى جانبي في الكواليس. هذه المرة ستغني معي على المسرح وتشارك في الغناء الخلفي أيضاً. كما تستضيف الأمسية الفنانة البريطانية آشا باركنسون، عازفة الساكسوفون والملحّنة، في مشاركة تضيف أبعاداً موسيقية جديدة للتجربة. وجود هؤلاء إلى جانبي يمنحني طمأنينة كبيرة ويزيد من حماستي.
ماذا تتمنين أن يبقى عالقاً من صوتك عند المستمع العربي بعد خمس أو عشر سنوات؟
الإحساس. هذا هو جوهر الموسيقى بالنسبة إليّ. قد يبرع بعض الفنانين في التقنية، لكن إن لم يصل الإحساس، فلا قيمة حقيقية للعمل. الموسيقى بالنسبة إليّ هي التجربة الإنسانية المشتركة؛ أن نكون معاً في لحظة واحدة ونشعر بما لا نشعر به عادة في حياتنا اليومية. على المسرح أعيش ما أغنيه بصدق كامل، وأسعد كثيراً حين يأتي إليّ الناس بعد العرض ويقولون إنهم تأثروا أو بكوا. بالنسبة إليّ، هذا هو المعنى الأعمق للفن، أن يظلّ ذلك الطفل في الداخل حيًّا، يذكّرنا بأحلامنا.
Related News

«حماس»: مصر ستستضيف مؤتمراً فلسطينياً حول مستقبل غزة
aawsat
15 minutes ago

لصحة الأمعاء وفقدان الوزن... متى عليك تناول الإجاص؟
aawsat
28 minutes ago