يمثل اعتقال طالب الماجستير في جامعة كولومبيا بمدينة نيويورك محمود خليل تصعيداً خطيراً في حملة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القمعية ضد المدافعين عن حقوق الفلسطينيين المشروعة، والمطالبين بإنهاء الاحتلال وحرب الإبادة ووقف استثمارات جامعاتهم في الشركات والمؤسسات الإسرائيلية. من الضروري ربط هذا التصعيد بعدد من السياسات الداخلية الأميركية. كما لا يمكن حصر سياسات ترامب وتبعاتها في ما يتعلق بفلسطين فحسب، بل لا بد من النظر إليها باعتبارها استمرارية ونتيجة حتمية لسياسات الحزب الديمقراطي وقيادة الرئيس السابق جو بايدن خلال العدوان الإسرائيلي على غزة وما قبلها، والتي اتسمت بعدائية شديدة للمعارضين وتقديم غطاء عسكري وسياسي ودبلوماسي لسياسات إسرائيل.
محمود خليل، فلسطيني يصفه من يعرفونه بالشخص اللبق والهادئ والمؤدب والذكي، وكان من قيادات الطلاب التي تفاوضت مع إدارة جامعة كولومبيا خلال فترة الاحتجاجات. زوجة محمود خليل، التي تحمل الجنسية الأميركية وهي حامل بشهرها الثامن فضلت عدم الكشف عن اسمها، وصفت اعتقاله بـ"الاختطاف". اللافت في عملية القبض على محمود خليل أنها تمت، بحسب بيان محاميه، عندما كان برفقة زوجته وعلى وشك دخول السكن الجامعي في جامعة كولومبيا في نيويورك حيث يعيشان.
وجّه محمود خليل رسالة لجامعة كولومبيا قبل اعتقاله طالباً الحماية
اعتقال محمود خليل
وبحسب تصريحات فريق الدفاع، اقترب من محمود خليل وزوجته، الأحد الماضي، رجال بملابس مدنية عرّفوا أنفسهم لاحقاً بأنهم عملاء وزارة الأمن الداخلي. وقالوا إنهم سيرحلونه لأن تأشيرة دراسته ألغيت. وعلى الرغم من إثبات زوجته للعملاء أنه صاحب إقامة دائمة (بطاقة خضراء)، إلا أنهم تلقوا أوامر بالقبض عليه. وقدم محاموه على الفور التماساً في نيويورك مطالبين بالإفراج عنه. لكن الحكومة الفيدرالية نقلته إلى لويزيانا خلال ساعات، وهي على بعد 1600 كيلومتر من تلك المحكمة، لتعقيد الوصول إليه والحيلولة دون تدخل محكمة نيويورك، بحسب فريق دفاعه. ثم قدم فريقه التماساً آخر للمطالبة بإعادته إلى نيويورك كي يتمكن من الحصول على تمثيل قانوني. وأصدرت محكمة فيدرالية أمراً، الاثنين الماضي، بتحديد موعد جلسة استماع، كما منعت الحكومة من ترحيل محمود خليل حتى تأمر المحكمة بخلاف ذلك.
هناك الكثير من علامات الاستفهام حول الدور الذي أدته إدارة جامعة كولومبيا وسماحها للمسؤول في إدارة الهجرة والجمارك (ICE)، بالدخول إلى الحرم الجامعي. وتزداد الإشكالية عندما نكتشف أن محمود خليل، بحسب موقع "دروب سايت" الأميركي، وجّه رسالة إلى رئيسة جامعة كولومبيا المؤقتة كاترينا أرمسترونغ، قبل يوم واحد من اعتقاله، يطلب فيها منها حمايته بعد استهدافه في حملة تشهير وتشويه سمعته. وكتب محمود خليل: "لم أتمكن من النوم خوفاً من أن تأتي إدارة الهجرة والجمارك أو شخص خطير إلى منزلي. أرجو منك التدخل وتوفير الحماية اللازمة لمنع المزيد من الأذى". ولم تعلق إدارة جامعة كولومبيا بشكل رسمي ومباشر على اعتقاله، وذلك وعلى الرغم من دعوات صحافية مختلفة. لكن الجامعة أحالت صحافيين إلى بيان عام تحدثت فيه عن التزامها بالقانون وتنفيذه، وأن دخول مبانيها وحرمها الجامعي من قبل عملاء الهجرة يتطلب أمراً قضائياً. كما رفضت التعليق على ما إذا كان لها علم مسبق بمحاولة اعتقاله.
والمفارقة أن إدارة ترامب كانت قد ألغت أخيراً 400 مليون دولار من المنح والقروض لجامعة كولومبيا بحجة عدم القيام بما يكفي لمكافحة معاداة السامية في الجامعة. لكن المفارقة الكبرى لا تكمن فقط في الخلط المتعمد بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل، ولكن لكون إدارة جامعة كولومبيا، وقائمة طويلة من إدارات جامعات أخرى، قمعت الحراك الطلابي المناهض للحرب والداعم للقضية الفلسطينية بعدد من الطرق، من بينها منع التظاهر في حرمها وفض الاعتصامات بالقوة والسماح لشرطة نيويورك بالدخول لحرمها وملاحقة طلابها وأساتذتها المناهضين للحرب وغيرها من الإجراءات التعسفية والقمعية. ودان مختصون في القانون ومنظمات حقوق إنسان تصريحات المسؤولين في الإدارة الأميركية، والاعتقال نفسه، لأنه ينتهك الدستور الأميركي وبنده الأول الذي يحمي حرية التعبير والتجمع. كما تظاهر أكثر من ألف شخص في نيويورك، الاثنين الماضي، احتجاجاً على اعتقال محمود خليل، مطالبين بالإفراج عنه، كما خرج مئات في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي للمطالبة بالإفراج عن محمود خليل مساء الثلاثاء.
وأكد المحتجون أنهم سيواصلون رفع أصواتهم ضد "انتهاكات حقوق الإنسان" من قبل إدارة ترامب. وخلال أقل من 48 ساعة على اعتقاله وقع أكثر من مليون شخص في الولايات المتحدة على عريضة تطالب بالإفراج عن محمود خليل. وطرحت تساؤلات حول قانونية الاعتقال نفسه وإلغاء إقامة شخص ما بطاقته خضراء إذا لم يرتكب أي مخالفة قانونية ولا توجد أي تهم موجهة إليه. وكل هذا يأتي في ظل تقارير إعلامية مفادها أن إدارة ترامب تستعد لإصدار أمر رئاسي، مشابه لما قامت به في فترة حكمه الأولى (2017 ـ 2021)، ومنع دخول مواطني عدد من الدول ذات الأغلبية المسلمة إلى الولايات المتحدة. وتباهى الرئيس الأميركي باعتقال محمود خليل في منشور على وسائل التواصل الاجتماعي، قال فيه: "هذا هو الاعتقال الأول في سلسلة من الاعتقالات القادمة". وأضاف: "لقد اعتقلت إدارة الهجرة والجمارك بفخر محمود خليل، وهو طالب أجنبي متطرف مؤيد لحماس في حرم جامعة كولومبيا".
نُظّمت تظاهرات في نيويورك وشيكاغو دعماً لمحمود خليل
أما وزير خارجيته ماركو روبيو فنشر على منصة "إكس" (تويتر سابقاً)، تهديداً بترحيل حاملي الإقامات الأميركية (بطاقة خضراء) المشاركين في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين. وكتب تعليقاً على خبر لوكالة أسوشييتد برس، تناول فيه قضية اعتقال محمود خليل: "سنقوم بإلغاء التأشيرات و/أو البطاقات الخضراء لأنصار حماس في أميركا حتى يمكن ترحيلهم". كما وصفت وزارة الأمن الداخلي الاعتقال بأنه "دعم للأوامر التنفيذية للرئيس ترامب التي تحظر معاداة السامية". وفي الادعاء خلط خطير بين معارضة الاحتلال الإسرائيلي وحرب الإبادة وبين معادة السامية، التي تتصاعد في الدول الغربية أيضاً، بما فيها الولايات المتحدة، ولكن لا علاقة لها بفلسطين ولا بمناهضة سياسات الحكومة الإسرائيلية المدعومة أميركياً. ناهيك عن أن الكثير من المعارضين للسياسات الإسرائيلية لها والمشاركين في الحراك هم من اليهود الأميركيين، طلاب وأساتذة وغيرهم.
ادعاءات الأميركيين
وفي العودة لوزارة الأمن الداخلي، فإنها ادعت في منشورها أيضاً أن "محمود خليل قاد أنشطة متحالفة مع حماس، المصنفة منظمة إرهابية (في الولايات المتحدة)". وهذا يزيد التصعيد لأنه من غير الواضح ما هي "الأنشطة المتحالفة مع حماس"؟ هل معارضة الحرب والإبادة هي "تحالف مع حماس"؟ وحتى لو كان لشخص ما رأي مؤيد لحماس دون أن تكون له علاقة مباشرة أو عمل معها (إذا أردنا الأخذ بعين الاعتبار أن الولايات المتحدة تصنف حماس منظمةً إرهابية)، فهل "رأي ما" أصبح قابلاً للتجريم؟
ومن اللافت هنا أن دخول كبار السياسيين الأميركيين، الرئيس الأميركي ووزير خارجيته، يزيد رمزية اعتقال خليل وينبئ بضغوط شديدة من كبار المسؤولين الأميركيين قد تمارس بشكل مباشر أو غير مباشر على استقلالية المؤسسات الأميركية بما فيها المحاكم. وأظهرت المحاكم الأميركية استقلاليتها إلى حد كبير وشكلت عائقاً وتحدياً أمام ترامب في فترة رئاسته الأولى، وحالت دون تنفيذه عدداً من السياسات العنصرية أو الإشكالية. كما يظهر دخول ترامب ووزير خارجيته على الخط أن القضية سياسية بالدرجة الأولى تهدف إلى أخذ أحد رموز الحركة الطلابية والحراك في جامعة كولومبيا كبش فداء، ليس لتخويف طلاب آخرين والاستمرار بقمع الحراك الطلابي الذي بدأ تحت إدارة بايدن وحزبه الديمقراطي فحسب، بل كنوع من البلطجة السياسية لجعل محمود خليل والحراك أمثولة لمن تسول له نفسه أن يعترض على سياسات الدولة (الخارجية والداخلية)، فلسطين أولاً، ولكن بعد القضاء على الحراك سيأتي الدور على الآخرين، وما هي إلا مسألة وقت لا أكثر، إن تمكنت من تنفيذ خططها.
Related News


