لا تؤجّلها
Arab
4 hours ago
share

يرى كثيرون أن المرء لا يعرف قيمة من حوله إلا حين يخسرُهم، كأن الفقد هو الضوء الوحيد الذي ينير عتمة الغفلة. لكن، أليس من الظلم أن يُختزل التقدير في لحظة فوات الأوان؟ أليس من الأجدر أن نعي قيمة الأشخاص وهم لا يزالون بيننا، أن نُبصر وجودهم قبل أن يصبحوا مجرّد ذكرى؟

ليس ضرورياً أن نخسر أحداً لكي ندرك مكانتَه، بل يكفي أن نملك قلباً يقظاً، وعيناً ترى بعُمق، وروحاً تقدّر النعم قبل أن تتحوّل غياباً.

في دوّامة الحياة، تلتهمنا التفاصيل الصغيرة، وتشغلنا المشاغل اليومية، فنغفل عن أولئك الذين يشكّلون نسيج أيامنا. نعتاد وجودَهم كما نعتاد ضوء الصباح، لا نفكّر فيه كثيراً، لأنه ببساطة هناك كلّ يوم. وحين نُفاجَأ برحيلهم، نشعر وكأنّ شيئاً من روحنا قد انتُزع، نبحث عن دفء كلماتهم في الفراغ، عن ظلالهم في الممرّات الخالية، عن أصواتهم بين الضجيج، فلا نجد إلا الصمت. عندها فقط ندرك كم كانوا جزءاً من حياتنا، كم كان وجودُهم هبةً لم نُحسن تقديرها كما ينبغي.

لكن، هل ينبغي أن ننتظر الرحيل حتى نُبصر؟ لماذا لا نُدرّب قلوبنا على الامتنان قبل أن يتحوّل ندماً؟ هناك أشخاصٌ نُحبّهم بعمق، لكننا نفترض أنهم سيبقون، فنؤجّل كلمات التقدير، نؤجّل الاعتذار، نؤجّل التعبير عن مشاعرنا، حتى يأتي اليوم الذي نجد فيه أنفسنا عاجزين عن قول أيّ شيء سوى: "ليتني قلت له كم كان يعني لي".

لماذا نعيش وكأنّ العمر وعود مؤجّلة، وكأن الفرصة لن تضيع أبداً؟... أن تعرف قيمة شخصٍ ما لا يعني أن تدرك غيابه حين يرحل فقط، بل يعني أن تشعر بحضوره وهو لا يزال هنا. أن تراه حقّاً بكلّ تفاصيله، بكلّ ما يمنحك إياه بصمت. أن تُقدّر ابتسامته التي تُبدّد عنك تعاسة يومٍ طويل، أن تنتبه إلى الكلمات العفوية التي يلقيها من دون أن يدرك أثرها فيك، أن تُدرك أن بعض الأشخاص يُضيئون الحياة من دون أن يشعروا، لأنهم هم فقط.

قد يكون صديقاً تلتقيه كلّ يوم من دون أن تعي كم يضيفُ إلى حياتك، أو أخاً يقف معك من دون أن تنتبه إلى أن وجودَه حصنَ أمانك، أو والداً يراك محور حياته، وأنت لا تدرك كم تبذل يداه من أجلك. كم من أمٍّ تنتظر أن ينظر إليها أبناؤها نظرة امتنان صادقة، لا نظرة عابرة مشغولة. كم من أبٍ يكتم تعبه خلف صمته، متمنّياً أن يسمع فقط كلمة "شكراً". وكم من صديق وفيٍّ يعيش في ظلّ حياتك من دون أن تمنحه ضوء الاهتمام الذي يستحقّ.

ليست الحياة طويلةً بما يكفي لنؤجّل الحبّ، ولا واسعةً بما يكفي لنُهمل من يستحقّون مكانة في قلوبنا. لا تجعل انشغالك بالحياة يُنسيك أهم ما فيها؛ الأشخاص الذين يمنحونها معناها. كن يقظاً، انتبه إلى الأشياء الصغيرة التي تصنع الفارق، لا تفترض أن الجميع يعلمون مدى أهمّيتهم لديك، لأن بعض القلوب تحتاج أن تسمع ذلك، أن تشعر به، أن تراه في أفعالك، لا في كلماتك فقط.

ليس ضرورياً أن تخسر أحداً حتى تعرف قيمته، لكن من الضروري أن تعيش واعياً، أن تُدرك قيمة اللحظة قبل أن تصبح ذكرى، أن تُمسك بالفرص قبل أن تتلاشى، أن تقول؛ "أحبّك"، "أقدّرك"، "أنا ممتنٌّ لك"، الآن وليس لاحقاً. لأن "لاحقاً" قد لا يأتي، ولأن الحياة تمضي أسرع ممّا نظن.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows