القهوة اليمنية: ميثاق صلح  في العرف القبلي اليمني يواجه خطر الزوال..
Civil
2 days ago
share

ليست القهوة في اليمن، خاصةً في المجتمعات القبلية التي لا تزال تحتفظ بأعرافها، مجرد مشروب صباحي. إنها وثيقة اجتماعية لا تُنقض، تحمل مكانة أعمق من النشاط والروقان، فقبولها أو رفضها يرسم حدود السلام أو العداوة.

يُعد احتساء القهوة علامة على الود والاحترام والسلام، بينما يتحول الامتناع عن شربها إلى أسلوب ضغط قبلي قاهر. هذا الرفض يُستخدم للإجبار على قبول “الواسطة” أو التعبير عن الزعل والعداوة بشكل لا لبس فيه.

 

“علقة المتيع”: قوة القهوة في فض النزاع

تتجلى القوة الحقيقية للقهوة في دورها كـ ميثاق صلح إجباري. فمجرد أن يشرب فرد من قبيلة القهوة عند شخص من قبيلة أخرى، حتى وإن كان بينهما ثأر أو حرب، فإن هذا الفعل يُعتبر هدنة إجبارية و”صُلحًا” لمدة ثمانية أيام كاملة، تُعرف بـ “علقة المتيع”.

هذا الميثاق له قدسية شديدة، فإذا وقع اعتداء خلال هذه المدة من قبل القبيلة المضيفة (التي أكرمت شارب القهوة وأكلت “زاده”)، فإن العقوبة تكون مغلّظة. هذا الاعتداء يُعتبر “عيباً” يُقدر بـ “المحدش”، ويطال العرض، أو المال، أو الدم، حفاظاً على شرف الوثيقة المتفق عليها ضمناً. “علقة المتيع” نظام صارم لا يعرفه إلا من تمسكوا بأعرافهم.

 

الكرم المستنزف والضيف “الرازم”

من المؤسف أن هذا العرف الجميل يواجه تحدياً من الداخل. ففي حين تفرض العادات تقديم القهوة للضيف كدليل كرم، فإن مفهوم الضيافة نفسه قد تشوه. تحول الضيف، الذي يجب أن يكون مرحباً به ليوم أو ثلاثة أيام، إلى “جاثوم رازم” أو “طوّاف” دائم التردد، وقد يصبح “ربيـباً” إذا استقر.

هذا التردد المستمر يضع ضغطاً هائلاً على المضيف الكريم، خاصةً مع تفشي البطالة والكسل وتعاطي القات. يستغل هؤلاء “الضيوف الدائمون” ميزة الكرم بلا حدود، ويُطلقون اتهامات للمضيف بأنه “لا يعرف الضيف” إذا قصر في الاستضافة المستمرة.

المسؤولية هنا تقع على عاتق الشخص “الرازم”؛ عليه أن يعرف قدر نفسه وألا يُفرط في التردد بدون مناسبة أو عمل. إن الإفراط في الاستغلال يهدد بفقدان احترام الناس للكرم الأصيل نفسه.

 

تشويه الأعراف وتأثير “القات”

لعل أحد أبرز مظاهر التشويه الثقافي تأتي من المسلسلات البدوية الخليجية والأردنية. فما يُعرض فيها من تقاليد مبالغ فيها للقهوة، هو في كثير من الأحيان سيناريو مُضخم جداً لا يمثل الواقع ولا يتسق مع العادات الأصيلة. هذا التضخيم يساهم في إضعاف فهم الأجيال الجديدة لمدلولات القهوة الحقيقية.

لكن التهديد الأكبر لعادات القهوة اليمنية هو القات: للأسف، أدى تفشي عادة مضغ القات إلى تهميش القهوة في جلسات السمر، والمقيل فتحولت من مشروب رئيسي يحمل رمزية عميقة إلى مشروب هامشي.

الضعف الاجتماعي: ضعف احترام الناس للقبيلة وقواعدها، وبُعدهم عن القيم الدينية، أدى إلى تآكل قيمة “المتيع” وتزايد الوقاحة في التعامل. فقد أصبحت القهوة لا تُجبر على الصلح كما كانت، وضعف احترام الضيف.

لقد كانت القهوة قاعدة ملزمة لضبط المجتمع وانسجامه. واليوم، يتطلب الأمر وعياً لإنقاذ رمزية القهوة اليمنية وإعادتها إلى مكانتها كنظام اجتماعي قوي، لا مجرد تقليد أو مشروب هامشي.

The post القهوة اليمنية: ميثاق صلح  في العرف القبلي اليمني يواجه خطر الزوال.. appeared first on يمن مونيتور.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows