هل قتل العصر الرقمي فن التشبيك؟
Arab
4 hours ago
share

في عالم الأعمال الذي يتسم بالتنافسية الشديدة والتغيّرات السريعة، يظلّ بناء شبكات العلاقات المهنية عنصرًا جوهريًا للتطوّر وتعزيز الفرص وزيادة التأثير. ومع ذلك، يبدو أنّ الطريقة التي يُنظر بها إلى التشبيك اليوم قد تحوّلت إلى ممارسة شكلية في كثير من الأحيان، ممارسة أفقدتها جوهرها الحقيقي، مما يدفعنا للتساؤل هل يمكن للكم الافتراضي أن يسدّ مكان العلاقات النوعية؟ أم أنّ التشبيك، ذلك الفن الذي يُبنى على التواصل الحقيقي والإنجاز المشترك والثقة والدبلوماسية، قد أصبح ضحية لعصر السرعة والسطوح اللامعة؟

في سياق عالم الأعمال الواقعي من الصعب بناء شبكة علاقات مهنية فعالة عبر المجاملات العابرة أو التفاعلات على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث يفترض أن تنمو الشبكات الفعالة بشكل عضوي وتدريجي من خلال التفاعل والعمل المشترك، والتعاون الفعلي، وتشارك تجارب النجاح والفشل المهنية التي تخلق روابط قائمة على الثقة والكفاءة. قد لا يعتبر هذا الرأي رائجًا هذه الأيام وسط ضوضاء التواصل الاجتماعي وبريقه الزائف، ولكني أستند في طرحي إلى أكثر من ربع قرن من عملي في برامج ومشاريع متنوّعة حقّقت مستويات مختلفة من النجاح، وسمحت لي بالتشبيك مع محترفين من غرب هذا الكوكب إلى شرقه.

وهنا يبرز التناقض الصارخ في أيامنا هذه في عصر التكنولوجيا والاتصال السريع، حيث أصبح من السهل على أيّ شخص أن يضيف مئات، بل آلاف الأشخاص إلى قائمة اتصالاته على منصات مثل (LinkedIn) في أيامٍ معدودة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما قيمة هذه الشبكة الواسعة إذا كانت مبنية على تفاعلاتٍ سطحية لا تتجاوز الإعجاب بمنشور أو تبادل رسائل قصيرة، وحتى في غالب الأحيان بدون أيّ تفاعل على الإطلاق؟ وهنا تبرز حقيقة أنّ التشبيك الناجح لا يُقاس بعدد الأسماء في قائمة الاتصال، بل بمدى عمق العلاقات وقدرتها على تخليق فرص حقيقية وفتح الأبواب.

التشبيك الناجح لا يُقاس بعدد الأسماء في قائمة الاتصال، بل بمدى عمق العلاقات وقدرتها على تخليق فرص حقيقية وفتح الأبواب

لا أعلم شخصيًا متى أصبحت شبكات العلاقات المهنية الافتراضية هدفًا قائمًا بذاته، لربما تساهم في لفت الانتباه إليك ولكنها في الغالب لن تترجم لشيء ملموس لوحدها، فالمفترض في شبكات العلاقات المهنية أن تكون نتيجة طبيعية لإنجازات ملموسة وتعاون مثمر بين المهنيين. فكلّ تجربة عمل مشتركة، وكلّ نجاح جماعي يساهم في ترسيخ علاقات ذات قيمة طويلة الأمد. مثل هذه العلاقات لا تُبنى بين ليلة وضحاها عبر نقرات الفأرة، بل تتطلّب وقتًا وجهدًا والتزامًا واستثمارًا حقيقيًا، فمن خلال مسيرتي العملية، أدركت أنّ العلاقات المهنية المتينة لا تُنسج في أروقة المؤتمرات أو عبر الشاشات الباردة أو المجموعات الافتراضية الاختيارية، بل تُبنى في ميدان العمل الحقيقي، حيث تتجلّى الروابط الإنسانية والمهنية في أبهى صورها. فعندما تعمل مع الآخرين تمرون سويًا بمنعطفات التحديات وذروات النجاح وقيعان الفشل، فتكتشف مواطن قوّتهم وهناتهم، وتصقل معهم لغة تفاهم قائمة على الاحترام المتبادل، وتتشكّل الصداقات كما العداوات، وللمفارقة كلاهما مهم ولربما بنفس القدر لمساراتنا  المهنية ولو اختلفت الأشكال والاستخدامات. هذه التجارب المشتركة هي التي تُرسي دعائم الثقة وتعزّز العلاقات، أو تبيّن لك من يجب عليك تجنبهم وإقصاءهم من شبكاتك. 

وعليه في عالم الأعمال، في الغالب لن يُقبل على التعامل معك صانعو القرار ممن يبحثون عن علاقات حقيقية إن ظهرت كمجرّد حساب متظاهر آخر على (LinkedIn)، أو إذا كان همّك مجرّد زيادة أعداد شكلية في شبكة معارفك. ولكن عندما تقدّم قيمة حقيقية، سواءٌ من خلال خبراتك ومعارفك العميقة، أو مهاراتك المتميّزة، أو قدرتك على حلّ المشكلات، أو حتى توجيه الآخرين نحو النجاح عبر شبكاتك الخاصة، فإن احتمالية أن تلفت انتباه محترفين يقدّرون هذه القيمة ويسعون لبناء علاقات متبادلة معك سترتفع بشكل كبير.

كلّ تجربة عمل مشتركة، وكلّ نجاح جماعي يساهم في ترسيخ علاقات ذات قيمة طويلة الأمد

في النهاية، محاولة التركيز على توسيع دائرة العلاقات بطريقة شكلية من خلال إضافة وصلات افتراضية عشوائية بدون استراتيجية تواصل لاحقة، تُعدّ إغفالًا لجوهر التشبيك الحقيقي. فالتشبيك ليس مجرّد نشاط اجتماعي أو عملية تسويقية تعتمد على زيادة المتابعين والتفاعلات، كما يُروّج البعض. بالتأكيد من المفيد والضروري أن تعزّز هويتك وحضورك الرقمي، ويجب استغلال الفرص التي توفرها العوالم الافتراضية، ولكن مع إدراك أنّ هذه الأدوات ليست سوى جزء مساند في عملية التشبيك الأشمل التي تتطلّب استثمارا استراتيجيا طويل الأمد، وتواصلا إنسانيا مستمرا، وجهدا مركزا متواصلا لبناء علاقات مستدامة قائمة على الثقة والكفاءة. فهذه هي الشبكات التي تصمد أمام اختبار الزمن، والتي ستفتح لنا أبواب الفرص، وتساعدنا على تحقيق النجاح على المدى الطويل.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows