
يجادل البعض بأن معظم اليمنيين قد أصبحوا كارهين لجميع الأطراف التي تحكمهم اليوم، وأن الغضب المتصاعد وفقدان الثقة لم يعودا مجرد تذمر عابر، بل تحولا إلى حالة ذهنية تصل أحيانًا إلى حد القناعة التي تجعل الناس يتمنون الخلاص من هذه القوى جميعًا. وحين يُسأل هؤلاء عن أدلتهم، يشيرون إلى سيل الشتائم واللعنات التي يوجهها المواطنون للمسؤولين على مواقع التواصل الاجتماعي، معتبرين ذلك برهانًا على تبدل القناعات.
غير أن مثل هذا الغضب، على أهميته، يظل في كثير من الأحيان مجرد انفعال عاطفي مؤقت، لا يمكن التعويل عليه ما لم يتحول إلى موقف راسخ أو سلوك فعلي يتجاوز لحظة الانفجار نحو الخطوة التالية في طريق التغيير.
فالمشاعر الإنسانية من غضب وضيق وإحباط طبيعية ومفهومة، لكنها لا تكفي وحدها لتشكل قناعة سياسية ثابتة. ما يميز التحوّل الحقيقي هو أن ينتقل الانفعال إلى قرار داخلي لا رجعة فيه، يقول فيه الفرد مع نفسه: لقد انتهى الأمر، هذا الطرف لم يعد جديرًا بالثقة ولا يمكن أن أمنحه تأييدًا مهما كان ضئيلاً.
وعندما يصل الإنسان إلى هذه القناعة يبدأ في التعبير عنها، مرة بالكلمة العلنية، ومرة بالنقاش مع الأقارب والأصدقاء، وأحيانًا بالموقف الصامت الذي يترجم رفضه. هنا فقط يمكن القول إن التغيير بدأ يتجذر، إذ تحوّل من انفعال إلى قناعة، ومن قناعة إلى سلوك ملموس، ولو في نطاق محدود أو سري تفرضه المخاوف والظروف الأمنية.
لكن من الضروري ألا ننخدع بمظاهر التفاعل السطحي على وسائل التواصل الاجتماعي. فكثيرون يتوهمون أن من يحظى بمشاهدات أو تعليقات واسعة هو بالضرورة مؤثر في الواقع، بينما الحقيقة أن معظم هذا التفاعل لا يعكس تحولًا في القناعات أو استعدادًا للفعل، بل قد يكون مجرد رد فعل عابر. التأثير الحقيقي لا يُقاس بعدد الإعجابات، بل بمدى قدرة الفكرة أو الشخص على إحداث أثر ملموس، كأن يواجه الناس مسؤولًا كاذبًا، أو يطالبوا بحقوقهم المسلوبة، أو يصروا على محاسبة من ظلمهم.
وهنا يظهر التناقض جليًا: فالموظف الذي نُهبت مستحقاته أو صودرت رواتبه قد يلعن السلطة ألف مرة، لكنه إذا واصل مجاملتها أو التودد لمسؤوليها، فإنه لم يغادر بعد دائرة الغضب الانفعالي إلى دائرة التغيير الحقيقي. المقياس الأصدق هو السلوك المستمر والمتسق مع القناعات، لا الانفجار اللحظي الذي يذوب سريعًا.
بطبيعة الحال يمكن اعتبار الغضب خطوة أولى، بل خطوة غريزية صغيرة على طريق التحوّل، لكنه لا يُعوَّل عليه ما لم يترجم إلى فعل. فاليمنيون، بحكم معاناتهم اليومية مع الفقر وضيق المعيشة وانعدام الأمن، من الطبيعي أن يشعروا بالنفور والعداء تجاه سلطات الأمر الواقع المختلفة، غير أن السؤال الأهم يبقى: هل يتحول هذا النفور إلى موقف ثابت وسلوك يعبّر عن رغبة في المحاسبة والخلاص، أم يبقى مجرد صرخة غضب سرعان ما تخبو؟
المعيار الواقعي لاختبار ذلك هو في مراقبة السلوك تجاه شخصيات محددة من هذه السلطات. فإذا لاحظنا أن الغالبية تواصل تبرير الفشل والفساد والدفاع عن قادة أثبتوا عجزهم، فهذا يعني أن الغضب لا يزال لحظيًا. أما إذا تحول التفاعل إلى نقد ومحاسبة ومواجهة فكرية، فهذا دليل على بداية التغيير. ويشمل هذا الحكم أتباع تلك الأطراف وأنصارهم، وكذلك المواطنين غير المنتمين إليها.
ومن المفارقات المؤلمة أن الذاكرة الشعبية أحيانًا تشبه ذاكرة السمك؛ إذ ينسى الناس سريعًا من خدعهم أو ظلمهم، ويغضون الطرف عن كوارث ارتكبها قادة ومسؤولون، بينما قد يهاجمون فنانًا أو شخصية محترمة بسبب خطأ صغير مثل الاجتهاد في موقف سياسي مع أنه قد لا يترتب عليه سفك دماء أو يمسّ حياة الناس.
هذا التناقض يوضح أن الغضب الشعبي غير المنضبط قد يظلم من يستحق التقدير، في حين يغفر بسهولة لمن يستحق الحساب.
إن التغيير الحقيقي لا يختصر في الشتائم ولا في الانفعالات العابرة، بل يبدأ من تحصين القناعات الجديدة داخل الفرد بحيث لا تتأثر بالضغط أو الخوف أو المساومات، ثم يتحول إلى سلوك يتناسب مع مساحة الحرية المتاحة والظروف الأمنية. عندها فقط يغدو الغضب بذرة لوعي جديد، ويصبح الأفراد لبنات أساسية في مسار طويل نحو تغيير أعمق وأشمل. أما إذا ظل الغضب محصورًا في التنفيس واللعنات، فسيبقى مجرد صرخة في الفراغ، تتلاشى دون أثر.
The post ذاكرة السمك والغضب العابر appeared first on يمن مونيتور.