
لم يعد غريباً أن تتحوّل صيغة البودكاست إلى وسيلة سياسية، إذ ظهر عدد من الرؤساء والمرشحين للرئاسة ضمن بودكاستات مختلفة، بوصفهم ضيوفاً، يشرحون ضمن جلسات طويلة يغيب عنها الطابع الرسمي، سياساتهم ورؤيتهم لمستقبل الولايات المتحدة الأميركية.
لكن اللافت، هو ما فعله حاكم ولاية كاليفورنيا، غافين نيوسم (Gavin Newsom)، الذي ظهر علينا ببودكاست، هو المقدم فيه، وليس الضيف، في محاولة للحديث مع المصوّتين، ومخاطبتهم بعيداً عن الرسمية والبلاغة السياسيّة.
قد تكون هذه الحركة وسيلة لمواكبة إيقاع العصر والتغيرات فيه، لكنها في الوقت نفسه، تكشف اهتراء الأساليب التقليدية لممارسة العمل السياسي، أو بكلمات أبسط: إقناع المصوتين على اختيار المرشحين وكأن المنصات التقليدية، من صحف ولقاءات إعلامية وغيرها، أصبحت شديدة الاستقطاب والتسييس، ما أفقدها ثقة المشاهد.
لكن، ما الذي يحكم البودكاست نفسه بوصفه وسيلة لبثّ المعلومات؟ في عالمنا هذا، سطوة الخوارزميات هي القائمة، إذ سيُقَصّ البودكاست، ويُقطّع إلى أجزاء وشذرات تتحول إلى Reels، وتختزل الأفكار، على أهميتها، إلى بضع ثوانٍ لجذب الانتباه.
نحن، إذن، أمام مصدر جديد للخوارزميات كي تعيد تقديم المحتوى ودفعه نحونا لاستهلاكه، خصوصاً أن عمالقة التواصل الاجتماعي الآن أصبحوا في جيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ووظفوا حرية التعبير سلاحاً لنشر "كل" الأفكار وتبادلها، وهذا المخيف في الموضوع تحديداً.
صيغة البودكاست لا تعني أن السياسي أصبح أقرب إلى الناس، بل تعني أن نظامَ فلترة، وشروطَ سوقٍ واستهلاكٍ، وريلات هي كلّها صيغة متكاملة من الإنتاج تتشكّل كي تحوّل الأفكار إلى "محتوى"؛ وهذا "المحتوى" هو اللعنة التي تحكم عصرنا فائق الاتصال وفائق التسييس، خصوصاً مع شخص كإيلون ماسك الذي أصبح جزءاً من السلطة الحاكمة في أميركا، وقادراً على التحكم بالمعلومات وتدفقها.
لكن، هل يمكن "الحكم" عبر البودكاست وحواراته الطويلة؟ تشهد الولايات المتحدة حالياً محاولات لتقويض سلطة الدولة وقطع أوصال مؤسساتها على يد إيلون ماسك، إذ تجاوز الأخير العملية البيروقراطية والإدارية للـ"حكم". هنا، فإن البودكاست بصيغته الحالية والبيئة التي يتحرك ضمنها، يحاول تجاوز البروتوكلات السياسية التقليديّة، نحو علاقة أشد آنية ومباشرة، قائمة على سياق "طبيعي" يتمثّل بحوار طويل بين شخصين، لا يحكمه سوى الأداء وسرعة البديهة.
هناك أيضاً عامل التبسيط، أي تبسيط الأفكار لتخاطِب "الجميع"، وهذه لعنة أخرى أًصابت عصرنا، وساهم البودكاست في ترسيخها، ضمن صيغة التخفف من الجدية. لكن، وهنا المفارقة، أن تحكم يعني بالضرورة أن تكون جدياً، كونك ستخضع إلى المحاسبة والمساءلة، والتخفف من الجدية يميّع المحاسبة. وفي زمن ترامب الذي نعيشه، لم يعد واضحاً ما هو جدي وما هو مجرد كلام عابر ينطقه رئيس أقوى دولة في العالم.
بالعودة إلى بودكاست غافين نيوسم بالطبع لم يثِر الانتباه في حديثه سوى "أزمة" مشاركة المتحولين في الرياضة. هكذا، تمكنت ماكينة الخوارزميات واقتصاد الانتباه أن يركّزا الموضوع على هذا الأمر، على معركة أعلنها ترامب، لكن هل هي المعركة الوحيدة؟
يكفي النظر إلى محاولة ترامب إلغاء وزارة التعليم، لنفهم أن هرم الأهميات ضمن نظام الخوارزميات مختلف عن ذاك الموجود على أرض الواقع، أو الذي تتناوله الصحف المُسيسة، وكأننا أمام عالمَين، شكلين من المعلومات، تلك التي تخضع إلى قواعد الخوارزميات واقتصادها وقدرتها على انتقاء ما يناسب "جمهورها"، وأخرى موجهة إلى الصحف الجدية والمساحات السياسية و"جمهورها". نحن أمام قطاعَين مختلفَين لكل منهما ناخبوه الذين يتبادلون الشتائم. انتصار البودكاست، وترامب نفسه، يتركاننا أمام أسئلة لا بد من طرحها، بخصوص الأفكار نفسها وقدرتها على الانتقال. هل من المعقول مثلاً أن تفقد الصحافة سلطتها ويتحول البودكاست إلى الفيصل والحكم أمام السياسيين؟

Related News

