
دأبت السلطات الروسية على التأكيد على أن العقوبات الغربية لم تؤثر بالشكل المهلك الذي كان الغرب يخطط له عند فرض العقوبات عليها الحزمة تلو الأخرى، في الوقت الذي تشير فيه دراسات إلى تغير عادات الروس الاستهلاكية مع ارتفاع التضخم. وتستدل الحكومة على صمود الاقتصاد، بأنه في العام الماضي حقق معدلات نمو وصلت 4.3%، علاوة على أنه، وفقا للتقديرات الرسمية في روسيا، من المنتظر أن يواصل الاقتصاد تحقيق النمو ولكن في حدود 2.5%، وإن كان البنك الدولي يتوقع ألا يتعدى النمو في روسيا العام الجاري 1.4%.
وربما لا يمكن الاختلاف مع تقديرات السلطات الروسية فيما يخص نطاقات تأثير العقوبات الغربية في الاقتصاد الروسي، حيث أظهر الاقتصاد الروسي صمودا وصلابة لم يكن الغرب يتوقعهما من البداية. وربما أيضاً أنه توصل لقناعة بأنه مع مواصلة فرض العقوبات، وحتى لو عادت الولايات المتحدة للتشدد مع روسيا، فلن يؤدي ذلك إلى تأثيرات تدفع المواطن الروسي للخروج إلى الشوارع والمطالبة بالإطاحة برئيس الدولة والحكومة، بل على العكس من ذلك فكلما تشدد الغرب في عقوباته كلما التحم الشعب الروسي حول قيادته.
تغير سلوكيات الروس الاستهلاكية
في الوقت نفسه ليس من العقل أو المنطق التصديق بأن العقوبات لم يكن لها تأثير بالاقتصاد الروسي، والدليل على ذلك هو نتائج الدراسات التي أجرتها مختلف مراكز الأبحاث والدراسات في روسيا ذاتها، التي تؤكد أن مستوى التضخم في الاقتصاد الروسي على مدار السنوات الأخيرة قد أدى إلى تغييرات كبيرة في سلوكيات ونمط حياة الروس، وعلى الأخص بالنسبة لسلة مشترياتهم الأساسية. ووفقا لتقرير الهيئة الفيدرالية للإحصاء في روسيا عن عام 2024 فقط شملت زيادة الأسعار قائمة تضم 566 سلعة في روسيا، بداية من الخبز ومرورا بالبنزين ووصولا إلى أسعار الإيجارات وغيرها من الاحتياجات الأساسية للمواطن.
وفي دراسة أجرتها المدرسة العليا للاقتصاد في روسيا مؤخرا، ورد أن العوامل الخارجية ليست وحدها السبب في زيادة الأسعار، كما أن زيادة أسعار بعض المنتجات لا يمكن أن تندرج ضمن أسباب التضخم وتحريك الأسعار بشكل كبير في روسيا، حيث أوردت أن أسعار إطارات السيارات قد ارتفعت بمقدار الضعف. وهذا العامل لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمثل تأثيرا مباشرا على زيادة أسعار المواد الأساسية، في حين أن زيادة أسعار الخدمات العامة من كهرباء وماء وغاز تؤثر بشكل مباشر وقوي في حركة أسعار المواد الأساسية.
وذكرت الدراسة أن المياه الباردة في روسيا قد زاد سعرها في الآونة الأخيرة بنسبة 15%، والكهرباء بنسبة 13%، والمياه الدافئة والتدفئة بنسبة 14%، وهو ما جعل فواتير الخدمات العامة في أغلب الأقاليم الروسية ترتفع بنسبة 20% على الأقل. ونوه مركز التنمية التابع للمدرسة العليا للاقتصاد إلى حقيقة مهمة للغاية وهي أنه من المعتاد، تراجع أسعار المواد الغذائية في روسيا في فصل الصيف اتصالا بموسم الحصاد الجديد، ومع ذلك بدا وكأن معدلات التضخم وصلت إلى حدود لم تعد العوامل التقليدية التي اعتاد المواطن الروسي عليها تؤثر فيها أو في حركة ارتفاع الأسعار.
وهنا يجب الاشارة إلى دهشة جانب كبير من الشعب الروسي لمثل هذه الزيادات في أسعار الخدمات التي دون شك سوف تنعكس بشكل مباشر في أسعار المواد الأساسية، وذلك رغم أن روسيا تمتلك، على سبيل المثال، أكثر من ثلثي مياه العالم، ولديها أكبر مخزون غاز طبيعي في العالم، وتنتج كميات ضخمة من الكهرباء والطاقة تكفي الشعب الروسي والشعوب المجاورة له.
تراجع الإقبال على شراء المواد الغذائية
الحقيقة هي أن الدراسات الاجتماعية في روسيا تؤكد أن المواطن الروسي يفضل الحفاظ على إنفاق نسبة معينة من دخله على المأكل والمشرب لتلبية الاحتياجات الرئيسية الأخرى، فالطبقة المتوسطة تخصص 30% من دخلها لهذا البند وليس لديها استعداد لزيادة هذه النسبة، حتى لو أدى ذلك إلى تعديل في الكميات والنوعيات، بينما الطبقة الفقيرة تصل النسبة فيها إلى 50%.
وتشير وكالة "نيلسين" للدراسات الاجتماعية والاقتصادية إلى أن الإحصائيات الرسمية في روسيا تؤكد أن الإقبال على شراء المواد الغذائية منذ بداية العام الجاري قد تراجع إلى أقل من النصف مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. كما تشير الوكالة إلى أن شراء منتجات الألبان والحلويات قد تراجع إلى الربع، وأغذية الأطفال إلى الثلث، وأغذية الحيوانات إلى النصف.
ورغم أن سلاسل المتاجر تؤكد أن الحديث لا يدور حتى الآن حول حالة من الكساد الكبير، فإن ما يجري وفقا لتقديراتها هو مؤشر على تغييرات ملموسة في تفضيلات المواطن الروسي وفي أولويات احتياجاته الأساسية، وتشير إلى أن الأمر لا يقتصر على الأنواع بل والكميات أيضاً. وكان ميخائيل ماتوفنيكوف، كبير المحللين في مؤسسة "سبيرا" الروسية، قد أكد أنه منذ عام 2022 تشكلت في روسيا طبقة متوسطة جديدة تضم العاملين في قطاع التصنيع العسكري وأفراد القوات المسلحة وأسرهم.
وبدءا من عام 2023 كان دخل هذه الطبقة يزيد بمعدلات من 25% إلى 27% سنويا، ويصل عدد من يندرجون ضمن هذه الطبقة ما بين 6 إلى 8 ملايين نسمة، وظلت هذه الطبقة هي قاطرة النمو في مجال الاستهلاك في روسيا، ولكن ماتوفنيكوف يؤكد أنه في ظل ارتفاع التضخم وما يرتبط به من ارتفاع في الأسعار لم تتمكن هذه الطبقة أيضا من الصمود واضطرت هي الأخرى إلى إدخال تعديلات في تفضيلاتها الاستهلاكية.
وتشير دراسة قامت بها المدرسة العليا للاقتصاد في روسيا إلى أنه في ظل المستويات الحالية للأسعار في روسيا تراجع استهلاك الروس في الربع الأول من العام الجاري من البروتين المرتفع السعر في مواجهة البروتين المنخفض السعر، حيث زاد استهلاك الشعب الروسي من البيض بنسبة 35% ومن لحوم الدجاج بنسبة 18%، بينما تراجع استهلاكهم من البطاطس بنسبة 40% ليحل محلها المعكرونة والحبوب.
في الوقت نفسه تراجع الاستهلاك من الحليب بنسبة 4% ومن الأسماك 5%، والأمر ذاته انطبق على الزبد والكرنب والكثير من الخضراوات والفاكهة. وأخيرا يشير ديمتري ليونوف نائب رئيس اتحاد المنتجين الروس، إلى أن هذه الاتجاهات سوف تستمر في الفترة القادمة، نظرا لأن مدخلات إنتاج الكثير من السلع الأساسية قد زادت نفقاتها بنسبة 12%، وهو ما يعني أن أسعارها لم تعد ذات جدوى تسمح بمواصلة الإنتاج.
(أسوشييتد برس)

Related News
