زياد الرحباني والبيانو... أن يتجاوز العازف آلته
Arab
2 hours ago
share

لا ينبغي النظر إلى الموسيقي الراحل زياد الرحباني بوصفه عازفَ بيانو فائق المهارة (Virtuoso)، ولم يكن ذلك جزءاً من مشروعه الفني ومساره المهني؛ فالعازف الڤيرتيوز هو من يهب حياته كليةً لأجل هدفٍ وحيد؛ أن يؤدي كل نغمة على أقصى درجات الإتقان، وأن يحمّل كل لحن وكل جملة أو موضوعة موسيقية بما يُناسبها من شحنة عاطفية وحمولة فكرية، سواء أكانت المقطوعة مكتوبة أم مُرتجلة.

أما زياد الرحباني؛ فيمكن اعتبار سيرته نموذجاً للفنان الشامل، المشتغل في عدد من وسائط التعبير والمنشغل في مختلف القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية، فلم يقتصر نشاطه على الموسيقى ولم ينحصر في تقديم الحفلات وتسجيل الألبومات، وإنما تجاوزها إلى الأدب، سواء القصائد، أو كلمات للأغاني، أو نصوص المسرحيات ليقوم هو بتلحينها.

فضلاً عن كونه شخصية جماهيرية مؤثرة لبنانيّاً وعربيّاً، لها حضور متواتر عبر وسائل الإعلام، من خلال مقالات صحافية، أو مقابلات وبرامج إذاعية وتلفزيونية. لذا، لم يكن يصرف كل الوقت، يتمرّن على آلته البيانو، ولئن أراد فلن يجده.

مع ذلك، اشتُهر بإطلالته وهو جالسٌ إليها، إما مُوجِّهاً فرقته الموسيقية من خلف هيكلها الأسود المهيب، وإما مؤانساً جمهوره، بينما تُوضّب أصابع يديه صفحات النوتة المُبعثرة على مَنصبها، أو تلاعب لوحَ مفاتيحها السود والبيض.

في المقابل، لعبت آلة البيانو دوراً محورياً في تكوين زياد الرحباني الموسيقي، وتشكيل مفرداته التعبيرية، ورسم ملامح شخصيّته الفنيّة (Persona) في الوعي العام، فإذا ما قورنت بآلات أخرى تعلّم العزف ومارسه عليها، كالبزق والأكورديون تبقى البيانو الأشد ارتباطاً بصورته في مِخيال جمهوره، فلا ترمز إلى موسيقاه فحسب، وإنما إلى تموضعه الثقافي أيضاً، المتجاوز للمحلّية المشرقيّة، من غير قطعٍ كاملٍ معها، والمحتضن للعالمية الغربية، من دون ذوبان تامٍّ فيها.

في الصغر، أعطاه دروسه الأولى في عزف البيانو على الطريقة الكلاسيكية الغربية، بوغوض جلاليان، العازف في فرقة أبيه وعمه، عاصي ومنصور. لاحقاً في شبابه، اتجه زياد الرحباني بقوة إلى موسيقى الجاز، الذي يعتمد على ارتجال الجمل اللحنية والانسجامات الموسيقية بصورة فيضية وتلقائية، تمايزاً من نهج التحضير المسبق والتركيز المطلق كما هي الحال لدى عازفي الموسيقى الكلاسيكية، الذين يعملون على توجيه الأداء لكي يُطابق تأوّل المؤدي لما أراده المؤلّف من خلال ما أورده من إرشادات خطّها على صفحات مدوّنته، أو تمثّلاً بتقاليد أدائيّة، تكوّنت بفعل إرث اجتهادات تأوّليّة لدى مؤدّين سابقين ومعاصرين، وُثّقت صوتيّاً عبر تقنيات التسجيل.

بالاستماع إلى مقطوعة "وقمح" من خلال تسجيل حيّ ضمن حفل قدمه الفنان في أبوظبي سنة 2005، يمكن التقاط سمات الأسلوب الذي قارب زياد الرحباني وفقه دوره الأدائي. تفتتح آلة البيانو الموسيقى بإرسائها الأرضية النغمية (الهارمونية) عبر استعراضه سلسلة من الأكوردات، أي الانسجامات، توحي للأذن بمقام الحجاز الشرقي الذي يطبع الموتيڤ الرئيسي، ثم ينحرف على غرار موسيقيي الجاز، ليرتجل على سلالم خماسية (Pentatonic) لم تألفها الأذن الشرقية، من شأن ذلك أن يضع المزاج العام ضمن إطار جاز الفيوجن، أي المزيج الذي شاع خلال الربع الأخير من القرن الماضي. 
 
عند الثانية (00:20) يُمهّد زياد الرحباني لمقام الحجاز مستخدماً اليد اليمنى وحدها، التي غالباً ما ينيط بها عزف الألحان، نظراً إلى تموضعها حيث الأقسام العلوية من لوح مفاتيح الآلة، المرادفة في ارتفاعها لمناسيب الأصوات الغنائية. 

بعد فاصلة وجيزة تؤدّيها آلات النفخ النحاسية، تعود يده اليمنى لتُقدّم الموتيف الرئيسي للمقطوعة، ترافقها في طباق تام آلة القانون. بذلك، يُشار إلى القرابة العمرانية واللونية لكلتا الآلتين، اللتين يمكن اعتبارهما، مع أخذ الفوارق الزمنية والجغرافية في الحسبان، تطوّراً عن آلة القيثارة العائدة إلى حضارة الرافدين القديمة.

مثل كل عازفي بيانو الجاز، على الأخص ذوي الأصول المشرقية، ولربما انطبق ذلك أيضاً على من احترف الموسيقى الكلاسيكية الغربية، يظهر ميل زياد الرحباني إلى استخدام اليد اليمنى في العزف. يعود ذلك إلى سمة الغنائية الطاغية للذائقة الموسيقيّة في المنطقة الناطقة بالعربية. يُستدل على ذلك عند الدقيقة (01:00)، حينما يشرع في الارتجال على لحن الموتيف الحجازي، بتنويعات لحنية، يكسرها على وقع إيقاع المقسوم الرباعي، المنظومةُ مقطوعتهُ وفقه.

من بين ارتجالات الجاز التقليدية، تُسمَع بين الحين والآخر زركشات شرقية تُنفّذها اليد اليمنى برشاقة، تُذكّر برائد عزف الموسيقى المقامية على البيانو بأسلوب الجاز، الأذري واكيف مصطفى زاده (Vagif Mustafazadeh)؛ إذ يوحي تلاصق العلامات الموسيقية، في حال نُفِّذت بسرعة فائقة، بالبُعيد الصوتي، أو الربع تون الشائع سماعه في المقامات الشرقية. 

يبقى أن لتلك الآلة المركزية دورٌ تعدّى الأداء بالنسبة إلى زياد الرحباني. دورٌ ارتبط بكونه مؤلّفاً أكثر منه مؤدّياً؛ سواءً كان التأليف الموسيقي كلاسيكيّاً أوروبيّاً (جاز) أم عبوراً (Crossover) بين الموسيقى الشرقية والغربية، يُعدّ البيانو بين يديّ المؤلّف أو الموزّع أو كاتب الأغاني بمثابة جهاز كومبيوتر، وذلك قبل أن تدخل الحواسيب على صناعة الموسيقى، فعلى لوحها تصطفّ مفاتيحٌ، تغطّي جلّ النغمات، يستطيع بواسطتها تشكيل كلّ الانسجامات الهارمونية الممكنة، بغية تأليف الجمل اللحنية هارمونيّاً متعدّد الأصوات، أو الاستماع إلى لحن من أجل توزيعه على عدّة مناسيب، ستُسند إلى  مجموعة من الآلات المختلفة.

من هنا، يُمكن لآلة البيانو أن تختصر فرقة أوركسترالية بأكملها، بما لا يزيد عن عشر أصابع. مثال ذلك، حينما قدّم الموسيقي الراحل مقطوعته الآلية الأشهر مقدّمة مسرحية ميس الريم خلال سهرة سنة 2018 تلفزيونية (معكم منى الشاذلي)، إذ يكاد يكون البيانو قائماً بجميع الأدوار، من موتيف دوّار (Riffs) ومرافقة إيقاعية وهارمونية تؤدّيها اليد اليسرى، بينما يصدر عن اليد اليمنى اللحن الرئيسي والتنويعات عليه، إضافة إلى الوصلات الارتجالية المنفردة، فلا يتجاوز حضور الفرقة المشهدية (Optics) وبعض الديكور الصوتي.

Related News

( Yemeni Windows) محرك بحث إخباري لا يتحمل أي مسؤولية قانونية عن المواد المنشورة فيه لأنها لا تعبر عن رأي الموقع..

All rights reserved 2025 © Yemeni Windows